إن أولى استخدامات الملح كما تشير مراجع تاريخ الغذاء هي حفظ المنتجات الغذائية من شتى مصادرها لفترات أطول مما هو بمقدور ما فيها من مواد حافظة طبيعية فعله، سواء ما تم طهوه منها أو لم يتم. لذا فإن الملح يعد من أقدم الاضافات التي اضافتها جميع مطابخ شعوب العالم قاطبة إلى الطعام وأوسعها انتشاراً. وارتبط الأمر في هذا بتاريخ الشعوب وتراثها، فتجد العرب يسمون أيام ما بعد الوقوف بعرفة في الحج بأيام التشريق، إشارة إلى عملية حفظ لحوم الأضاحي بتجفيفها بعد اضافة الملح إلى شرائح لحمها أو ما يسمى لدينا في يومنا هذا «الفقر». واستمرت إضافة الملح إلى الطعام حتى يومنا هذا، بالنظر لاعتبارين هامين: الأول: ما زالت غاية حفظ الطعام قائمة خاصة في إعداد الأطعمة الطازجة نظراً لقدرة الملح على الحد من فرصة نمو الجراثيم فيها. الثاني: وهو ما علق بمزاجنا نظرا لتعودنا منذ الصغر على الملح والأكل المالح بغية تحسين طعم العديد من المنتجات الغذائية وبالتالي سهولة تقبل تناولنا لوجبات طعامها كاللحوم بأنواعها والجبن والثمار النباتية المختلفة كالزيتون والمكسرات وغيرها، أي دون الأطعمة التي يتم تعودنا تناولها ابتغاء حلاوة الطعم كالفواكه والحلويات. فدعونا ننظر بشيء من التفصيل إلى تركيب الملح، وهل نحن بحاجة إلى تناوله بالأصل كاضافة لازمة إلى الطعام وبالكمية المتناولة من غالب الناس، وما هي مصادره في وجبات طعامنا، ثم لماذا الحديث عنه من قبل الأطباء. هذا العدد الذي قسمناه إلى زوايا متعددة نتحدث عن الملح وبعده وفي العدد القادم سنتناول علاقته بضغط الدم من عدة جوانب تهم القراء الكرام. تركيب الملح يوجد الملح في صورته النقية على هيئة مركبات بلورية تحتوي عنصرين من عناصر الطبيعة، هما الصوديوم، والكلور، فيسمى المركب المكون منهما «كلوريد الصوديوم» أو ملح الطعام. ومما هو معلوم للقارئ الكريم فإن مصادره بحرية في الغالب، كما وينتج بكمية. وتجدر الإشارة هنا إلى أمرين: الأول: أننا نتحدث في هذين المقالين حول الملح وضغط الدم عن ملح الطعام المعروف، ولا نتحدث عن الملح الصخري الذي تتنوع عناصر مكوناته لتشمل الكبريت أو البوتاسيوم، فيتميز لذلك باختلاف طعمه عن الملح العادي كما هو ملاحظ لمن تذوقه من القراء الكرام. الثاني: ان عنصر الصوديوم هو المقصود الرئيس في حديث الأطباء عن الملح، إذ ملح الطعام الشائع يحتوي في كل 1 غرام منه على 0,4 غرام من الصوديوم، وبشكل تقريبي وعملي لنا فإن ملعقة الشاي الصغيرة التي تحمل من ملح الطعام عند ملئها ما يزن 5 غرامات تحتوي بشكل أدق على 2 غرام من الصوديوم الصافي. فلسفة الحاجة إلى تناول الملح الملاحظ بلا أدنى جهد في التأمل ان الملح الذي يضاف إلى الطعام أضحى أساساً في إعداده، وذلك بالرغم من تقدم علم الانتاج الغذائي بدرجة أغنت عن الحاجة إليه كمادة حافظة للمنتجات الغذائية، وهو ما كان الداعي لاستخدامه في الزمن الماضي، بيد ان طعم الطعام صار مرتبطا به اليوم لدى الناس بحيث لا يستسيغون تناوله من دونه!. وهذا الأمر يؤكده الدكتور «جيمس كيني» من الولاياتالمتحدة في بحثه «ضغط الدم والملح» عام 2004 قائلا: «في يومنا هذا تفوقت الوسائل الحديثة كالثلاجات وتعليب الأطعمة وغيرها على استخدام الملح في حفظ الأطعمة، لكن أكثر الناس تعودوا على طعم الملح في الطعام، وغدوا يفضلون ما كان مملحاً دون سواه، ولذا لم يعد بمقدورهم في الغالب التخلص منه. وهذا هو السبب الرئيس وراء استمرار المعدلات العالمية العالية لاستهلاك الملح اليوم كما كان في الماضي رغم زوال حاجتنا الأصلية إليه في حفظ الطعام وإعداده». والسؤال عنا بعبارة أخرى هل حاجتنا لتناول الملح غريزة طبيعية فينا أم هي عادة ارتبط بها مزاج رغبتنا في طعم الطعام المتناول؟. وهنا يأخذ البحث اتجاهين في إثبات ان الحاجة إلى الطعام المملح ليست حاجة غريزية طبعية في الإنسان، وهما: الأول: إن احساس أحدنا بطعم الطعام مرتبط بأربعة أنواع أساس له، هي الحلو والمر والحامض والمالح. ومعلوم بداهة نفور المرء من المرارة بدرجة عالية ومن الحموضة كذلك ما لم تكن بدرجة معتدلة وتعود المرء عليها. وان الطعم الحلو متقبل بلا نزاع فيه كغريزة طبعية في الانسان ولأنه غذاء أساس. لكن الطعم المالح هو ما أشكل واستدعى إجراء البحوث حوله. ولعل من أدق البحوث حول تقبل البشر بشكل عام للملح وحاجتهم الغريزية عبر النظر بالبحث في مراحل مبكرة من حياة الإنسان هو ما صدر في مجلة «ضغط الدم» الأمريكية عام 2002م للدكتور «ستيفن زينر» بعنوان «ضغط الدم لدى الأطفال حديثي الولادة وتفاعلهم مع طعم الملح» إذ يقول فيه: «إن معدل امتصاص الرضيع أثناء إرضاعه الماء المالح حتى بدرجات مخففة هو أقل من رغبته العارمة في امتصاص الماء الصافي أو المحلى. كما لوحظ ان تعبير الوجه لدى نسبة عالية من الرضع حال اعطائهم الماء المملح تشبه تعبير الرفض الذي يبدونه عند إعطائهم ماء مراً. بعكس تعبير الوجه الدال على التقبل حال تقديم الماء الصافي أو الماء والسكر معاً إليهم». والحقيقة ان رفض الرضيع لأمر لا يؤلمه لكنه أيضا لا يتقبله يبدو بتغير تعبير وجهه ومحاولته البعد عما يوضع في فمه الأمر الذي يفهم منه الرفض وعدم التقبل. وكان المقصود الرئيس من هذا البحث وغيره من البحوث المشابهة هو الكشف عن علاقة درجة تقبل بعض الأطفال الرضع للملح وتأثير ذلك على ضغط الدم لديهم في المستقبل. مع التنبه إلى ان هذا التعامل الرافض من الرضيع بحد ذاته لا ينفي حاجة الانسان الحيوية لأمر ما في مراحل تالية من حياته، فكثير من المنتجات الغذائية لا يتقبلها الرضيع ولكنها لازمة لنموه وحياة جسمه بشكل سليم، لكننا لا نتحدث عن غذاء بل عن طعم ينتج عن إضافة مادة خارجية، فرفض الرضيع للماء المالح لا يفهم منه رفض الماء على الاطلاق. الثاني: استطردت كثير من البحوث في تعليل حاجة الناس إلى تناول بعض المنتجات الغذائية مملحة، ووجدت ان الأمر مرتبط بعدم القدرة على تقبل طعمها ونكهتها الأصلية بهيئة مجردة، وبما ان الملح كان أقرب المواد المضافة لهذه المنتجات الغذائية بالأصل لدواعي الحفظ، وبما ان الناس تعودوا في الغالب على تناولها ملحة، فإننا بالنتيجة أصبحنا نضيف الملح دون غيره وتعودنا على ذلك. ويؤيد هذا تعامل بعض الشعوب كما في جنوب شرق آسيا والصين مع السكر في إعداد أطباق تضم اللحوم والخضروات، وهو ما لا يتقبله عادة غيرهم من أحاد الناس كأمر محدث في حياته ما لم يجده مستساغاً ابتداء أو ان لديه رغبة وشغفاً في تغيير روتين طعامه. ثالثاً: لدى البحث في مقدار كمية الصوديوم اللازمة لحياة الإنسان عبر توفير الكمية الضرورية منها لأعضاء جسمه المختلفة كي تؤدي وظائفها الحيوية، فإنه وجد انها كمية ضئيلة يكفي ما يوجد في المنتجات الغذائية الطبيعية لسد الحاجة منها كما سيتم إيضاحه. ولذا فإن الكثير من الباحثين في دراساتهم يشيرون إلى ان حاجة الإنسان الغريزية، إضافة إلى حاجة جسمه الحيوية، غير مرتبطة بالملح كاضافة لتناول المنتجات الغذائية، مقارنة بارتباط الحاجة لديه إلى كمية الملح الموجودة في الغذاء الطبيعي، وان أمر إضافة الملح إلى الطعام واليوم بالذات إنما هي عادة غذائية مرتبطة بالمزاج ليس إلا. استشاري قلب الكبار مركز الأمير سلطان للقلب