أطلت على الساحة التونسية مؤخرًا “السلسلة الفكرية” للإعلامي والناشر كارم الشريف،في شكل عصري وأنيق، حيث تناولت في أول أعدادها «التحليل والتأويل: قراءة في مشروع محمد عابد الجابري»، قدمه الباحث والمفكر التونسي علي المخلبي، المتخرج من دار المعلمين العليا يعتني بالمجال الفكري والديني وبترجمة النصوص الفلسفية والسياسية. علي المخلبي اختار هذه المرة أحد أكبر المفكرين المغاربة لكثرة ما أساله من حبر نقدًا وانتقادًا وتنويها بآرائه وأفكاره وهجومًا عليه بإضافة إلى مجموعة هامة من الكتب يمكن ترتيب كتاباته حسب ما قدمه الباحث المخبلي، وهو ترتيب يكشف عن مرحلتين كبيرتين في فكر العابدي: مرحلة أولى يمكن أن نذكر فيها أطروحته الأولى تلك التي ما زال الفكر الماركسي يغذي المنهج والرؤيا في البحث وهنا نجد أهم كتابات العابدي التي جعلت منه قطبًا من أقطاب التفكير ومنها تباعًا (من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والفلسفية) و (العصبية والدولة) و (نحن والتراث) و( الخطاب العربي المعاصر) الذي أعلن فيه عن مشروعه الأساسي وهو (نقد العقل العربي) وقد صدر في أربعة أجزاء هي (تكوين العقل العربي) و(بنية العقل العربي) و(العقل السياسي العربي) و(العقل الأخلاقي العربي). ومرحلة ثانية تداخلت مع المرحلة الأولى ويبدو أنها انبثقت نتيجة الكثير من اللقاءات مع مفكرين من مناحٍ فكرية مختلفة عن المنحى الفكري الذي انطلق منه الجابري، كما أن صعود تيارات سياسية وفكرية قوّت من الحضور السلفي الديني دفع ربما الجابري إلى الاعتناء بقضايا لم تكن من مشاغل الفكر التقدمي في وقت ما مثل قضية تطبيق الشريعة، أو تجديد أصول الفقه أو تجديد أصول العقيدة.... ولعل اعتناءه الأخير بتفسير القرآن يدخل ضمن هذا المنحى، واعتنى في هذه المرحلة بقضايا أصبحت من مشاغل كل المفكرين تقريبا مثل قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان وحوار الحضارات.. ويقول أيضًا صاحب النص: إن فضل الجابري في رأيي ليس فيما يقول عن التراث ولا في أطروحته التي أعادت تنظيم ما وصلنا ضمن مجموعة من البنى فحسب وإنما في أنه حوّل مجال البحث والقول في الفكر العربي من الإجابة عن سؤال ما الذي يجب أن نأخذه من التراث ومن الغرب حتى نتقدم وننهض إلى إشكالية أخرى هي إشكالية المعنى والدلالة لم يعد السؤال ما هي عظمة أعلام التراث أو عبقريتهم (العقاد) بل ما هي دلالة القول في الفلسفة السينوية أو في فلسفة ابن باجة وابن رشد وابن خلدون، ما هي العلاقة بين النشاط اللغوي والكلامي والتاريخي والفقهي والتفسيري في مرحلة دقيقة من تاريخنا.. إن التساؤل عن الدلالة قد يخرجنا من فاعلية آلية القياس إلى فاعلية النظر والتأمل والتحليل والتأويل.. في هذا الإطار جاء كتاب التحليل والتأويل ، وتتمثل أهميته في: إخراج مبحث الجابري الذي انحرف في رأيي إلى قضايا غير دقيقة لا تتوفر لها آليات نقدية في قوة الآليات التي وظفها في أعماله الأولى، مثل الاعتناء بالتفسير القرآني وإرجاعه إلى مساره الفلسفي والابستيمولوجي المثمر. فأنا أعتقد أن الفيلسوف والمفكر عمومًا ليس معنيًا بالإجابة على ما هو يومي في جزئياته وتفاصيله بل على التفكير فيه وبه من زاوية تنظمه وتمنهجه وتأطره ضمن إشكاليات تدفع إلى تحقيق الغايات الكبرى للمجتمع والدولة والتي يمكن تحديدها فعلا كما حددها الجابري في العقلنة والعلمنة والوحدة.. وتكمن أهمية الكتاب في أنه يفكر في كتابات الجابري من داخل شاغله المنهجي والابستيمولوجي ولذلك وقع التركيز على مؤلفات المرحلة الأولى دون إغفال كتاباته الأخيرة فعملت على إعادة بناء خطابه إجابة على سؤال الدوافع للدخول في مشروع نقد العقل العربي، وكيفية القيام به، والنتائج التي وصل إليها والغاية الإيديولوجية التي يرمي إليها، بلغة أخرى اهتممت لماذا يكتب الجابري وماذا يقول وما هي الغايات التي يريد الوصول إليها ... كتاب محمد عابد الجابري (بين الغياب والاغتراب ) هو ينخرط في صلب إعادة الوعي بما ينتجه الفكر العربي المعاصر من قضايا، خصوصا بعد التحولات الهيكلية التي شهدتها الساحة السياسية والفكرية، كقضية الحرية والديمقراطية وعلاقتها بالتنمية، أو قضية العلوم وتطور مناهجها سواء في إطار الاختصاص، ضمن العلوم الإنسانية عموما، أم في إطار الفلسفة والابستيمولوجيا، أو قضية الأصالة والمعاصرة ، كما يرى هذه القضية الأخيرة هي التي تخترق كل القضايا السابقة وغيرها من المسائل التي تتفرع عنها، فهي قضية جوهرية لا تستقر عند حدود الإشكال الذي تفيض فيه الأقوال ، وتفتح آفاقا جديدة تثري عملية النظر في الدواعي التي أنتجت إشكالية الأصالة والمعاصرة.