منذ رحيل الروائي السوداني البديع الطيب صالح، وطيفه يلاحقني بين الحين والحين، دائما بنفس النظرة الودود، المتيقظة، المفعمة بالحب والحياة، وبتلك الطيبة السودانية التي كانت تشكل ملامحه. رحم الله الطيب صالح، وأثابه عما ترك للأدب العربي.. ذلك بحجم ما أراه.. موسم الهجرة للشمال.. ضو البيت.. عرس الزيني.. بندر شاه.. مريود.. دومة ود. حامد، ومنسي. في الأدب يسقط الكم غير النافع.. ويمجد القليل الذي يحاول إعادة صياغة العالم، والذي يؤسس لضوء يحاصر عتمة زماننا. كان عليه رحمة الله، هو وأدبه، من أصحاب القليل النافع. اذكره يحكي - كان احد أسياد الحكي في الأدب العربي الحديث - يقول بلهجته السودانية، تقطعها ضحكاته الصافية: - معايا يا زول.. حين حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل جن يوسف إدريس، وهاج وماج، وصرخ في ليل القاهرة: "أنا أحق".. في الفجر وجدته يطرق باب شقتي بمصر.. فتحت الباب وقبل أن يدخل صرخ في وجهي: مين أحق؟!.. أجبته.. اهدأ يا يوسف.. في الحقيقة نجيب محفوظ أحق.. أنت أمضيت حياتك مستمتعاً بالسفر وبالشهرة وبصداقة الكبار، وبعشق البنات، وبنعمة القصاص الأول، والنجم الأدبي الأول، فيما كان هو - نجيب محفوظ - ينكفئ طوال عمره على مكتبه صباح مساء، لا يعرف إلا أن يخلص للأدب والكتابة.. لم يغادر مصر إلا مرتين بأمر الحكومة، ومرة لإجراء جراحة في القلب.. أخلص للأدب لحد العبادة، وكشف طوال مسيرته عن عمق مدينة جسدها وغاص في روحها، وجعلها مماهية للكون.. يستحقها بسبب إخلاصه وتعبه وإبداعه.. شهادة حق. أتذكر أنني رافقته في مهرجان الجنادرية الثقافي في العام 1414ه، فكانت رفقة من أجمل سنوات العمر.. أضاف، عليه رحمة الله من روحه البهجة على المهرجان، وأشاع الألفة والصفاء.. وكنت أنادية من علي البعد: يا طيب يا راجل يا طيب، فكان يسعد بالنداء، وكانت ندوته زحمة بالرواد والمحبين، وكان سعيدا بحديثه عن جماعته التي كتب عنها. اقترحت عليه في تلك الدورة: أن نقيم مقهى ثقافيا في حديقة الفندق، الذي يحتوي على قاعة ترد الروح، نظيفة، وحسنة الإضاءة. جهزنا خيمة أقمناها في جانب من الحديقة، تطل عليها سماء بنجوم وقمر ينير، ولذعة من برد يوقظ الحواس. في اليوم التالي احتشد المكان بالشباب ممن يكتبون ويقولون الشعر.. قصاصون، وشعراء قصائد الوزن، وقصائد نثرية حداثية، وقوافل من شعراء القصيدة النبطية بلغاتهم، وإيقاعاتهم، وأوزانهم، بصوت الصحارى والبوادي، وعبرهم استمعنا لصهيل الجياد، ورمح الإبل على رمال البيد، ودفق الينابيع في المرابع والواحات. ثمة حوارات تطرح على الساحة، كل ليلة وتشتبك الحداثة الشعرية مع الشعر العباسي، ومدرسة حافظ وشوقي، والرصافي والجواهري وجبران وارتفعت الأصوات تلقي بالسؤال وتنتظر الإجابة، والخلاف في صبوة الليل له معنى، وحضورا مآخيا بين الأجيال. كنا جميعا سعداء بحرارة الحوار، وقادنا الشعر للحديث عن حرية الكاتب باعتبار الكتابة حرية وفعل حرية. وفي الصباح كتبت الصحف عن نشاط المقهى، وعما تثيره الخيمة من أسئلة شجاعة من شباب يسعون للمعرفة، ولحداثة الشعر.. ومع مرور كل ليلة يتكاتف الحضور حتى فاق رواد المقهى رواد الندوات العامة. وكلما أوغل الليل زاد انسجام الطيب صالح وبدا يلقي محفوظاته من شعر أبي الطيب المتنبي.. كان يعشق المتنبي، ويقدر موهبته، ويعتبره صاحب كبرياء وطموح، ولأنه مجد العروبة، وافتخر بنفسه، وانه من شعراء العرب القليلين الذين كان ينهض شعره على الحكمة والفلسفة، وكان لديه باع طويل على معرفة الوجود الإنساني، ويمتلك حكمة إدراك معني المصير. ومع سريان النجوم وسطوع القمر في السماء ينشد الطيب لأبي الطيب: وا حر قلباه ممن قلبه شمم *** ومن بجسمي وحالي عنده سقم مالي أكبت حبا قد بر جسدي *** وتدعي حب سيف الدولة الأمم ويعلو صوتي من ركن الخيمة، وأنا متكئا على مسند من المخمل برباعيات صلاح جاهين: خرج ابن آدم من العدم قلت: ياه رجع ابن آدم للعدم قلت: ياه تراب بيحيا.. وحيّ بيصير تراب الأصل هو الموت ولا الحياة؟ عجبي!! يصيح الطيب وقد أخذته جذبة الصوفي ومحبته لصلاح جاهين، ثم يعاود انشاد المتنبي: يامن يعز علينا أن نفارقهم *** وجداننا كل شئ بعدكم عدم وصدي صوتي يستجيب لرجع المتنبي، والشباب معنا وكأنهم في حلقة ذكر، وأعاود: يا باب يا مقفول.. أمتي الدخول. صبرت ياما واللي يصبر ينول. دقيت سنين.. والرد يرجع لي: مين لو كنت عارف مين أنا كنت أقول عجبي!!! تأخذ الجلالة الطيب صالح فينجذب ويصيح.. الله.. الله.. كفى يا كفراوي وإلا أغمي عليّ.. وينهض وقد تفصد جبينه بالعرق، وأنا منتشيا بسروره، ونتبعه، ويكون النهار قد أسفر، وتكون الشمس تولد مثل فرخ ينقر جدار الأفق، ويكون صدى الشعر ينير جنبات الخيمة، والجميع قد أسعده اللقاء. يا حسرة لم تتكرر ثانية مثل تلك الليالي بالجنادرية!!