لقد مات أبي.. انقضت حياته، وطويت صحائف أعماله ، حياة امتدت لأكثر من تسعين عاما ، رحل عن الحياة الدنيا وقد ترك أسرة ، تتكون من زوجة وسبعة أبناء وأربع بنات ، وأحفاد وأبناء عم وخال ، وأصدقاء وأصحاب ، تركهم وانتقل إلى الدار الآخرة ، وألسنتهم جميعا تلهج بالدعاء له بالمغفرة والرحمة . لقد مات أبي وانتقلت روحه الطاهرة إلى بارئها ، إلا أنني أتذكره كل يوم . أتذكر أيام طفولتي وكان يأخذني معه أحيانا لعمله تلبية لرغبتي ونزولا عند طلبي . أتذكر كده وتعبه من أجلنا. أتذكر مرحه وضحكه ومداعبته ومزاحه لنا وقد كانت شخصيته يرحمه الله ممتعة ، يحب المرح والفكاهة ، كان يحادث الناس ويضاحكهم وكأنه يعرفهم من زمن بعيد، يحبه الجميع صغارا وكبارا ، ويضرب به المثل في الطرفة والفكاهة . أتذكر قوته ونشاطه ، أتذكره وهو يصعد على الجبل في وادي قرية (المرزوق) عند تلك الشلالات الجميلة يوم ذاك ، وكان يأخذنا إلى هناك للفسحة والمتعة ، ثم يلقي بنفسه في ذلك الغدير ، فيختفي عن أعيننا ثم يظهر فجأة من إحدى الزوايا ، كحال السباحين المهرة. أتذكر حبه لي وخوفه علي من أي شئ قد يلحق بي. أتذكر ذلك اليوم الذي هجمت علي فيه مجموعة من الكلاب وكنت في بداية تعليمي الابتدائي في ذلك اليوم الممطر الشاتي خرجت من البيت خلسة فما تنبه والدي إلا على صيحات الاستغاثة التي أطلقتها والكلاب تلاحقني، وهدأ من روعي ، وشكر أولئك الشبان الذين أنقذوني بعد الله من افتراس الكلاب لي ، فلم يقر له قرار ولم يهدأ له بال حتى قضى على مجموعة كبيرة منها ، فكان يرحمه الله راميا محترفا . وكان يجيب من يسأله عن سبب قتله لها، أنها هي من بدأت ، والبادي أظلم . أتذكر عطفه وحنوه ، عندما آتيه شاكيًا اعتداء طالب من الطلاب ، او معلم من المعلمين يأتي للمدرسة محاميا عني ومدافعا أتذكر حبه للخير ومساعدة الضعفاء خيم الحزن علينا بفراقه ، وصغرت الدار بغيبته ، وضاقت البلدة بفقده ، شيبها وشبابها ، صغارها وكبارها لا حديث لهم إلا عنه ، يتوافدون إلى داره المتواضعة زرافات ووحدانا يواسون ويعزون جزاهم الله عنا كل خير . شكرا لكل أولئك الأحباب الذين حضروا الجنازة وشهدوا الصلاة وحملوه على الأعناق إلى قبره ، اللهم أجزهم خير الجزاء وبارك لهم في أعمالهم الصالحات. وشكرا لأصحاب السمو الأمراء والمعالي الوزراء والأخوة الزملاء والفضلاء الذين قدموا لنا العزاء في فقيدنا الغالي ونسال الله ألا يريهم مكروها وان يجزيهم عنا خير الجزاء. رحمة الله عليك يا أبي ، رحمة لا قبلها ولا بعدها ، رحمة تسكن بها الجنة ، وتأنس بها في قبرك . اللهم اجعل قبره عليه روضة من رياض الجنة، وأونس وحشته فيه . *مدير عام التجارة الخارجية