فإذا كان الفساد لدينا لم يصل لدرجة الظاهرة العامة التي تبيح لنا وصف المجتمع بعمومه بها ، فلماذا نرى بعض الأجهزة الرقابية والوسائل الإعلامية لدينا تزايد على هذه القضية ، وتبالغ في تناولها ، وتبث الرعب في قلوب الناس ، وتسقط الثقة في الدولة وأجهزتها وإداراتها في نفوس المواطنين ؟ محاربة الفساد بكل صوره وأشكاله هدفٌ سام وغاية من غايات الشريعة الإسلامية ، وما آمن قائد سياسي بهذا المبدأ كما آمن به وسعى لتحقيقه خادم الحرمين الشريفين - أيده الله - الذي جعل ذلك في قائمة اهتماماته وأولى أولوياته ، ودعا إليه في كل مناسبة وتابع تنفيذه بكل حزم ، حتى أعلى حفظه الله راية الإصلاح وأقام سوق النزاهة وكان من أبرز وسائله في هذه الحرب الشريفة غايتها ، سلاح الشفافية والرقابة الشعبية ، التي قامت فيها وسائل الإعلام بدور رائد مشكور عبر النقد الموضوعي ، والتتبع لكل صور التجاوزات النظامية وكشف مستورها ، حتى صار كل مسؤول يحسب للإعلام ألف حساب.. إلا أنه مع تواتر النصوص الشرعية الناهيةِ عن المنكرات ، والمحذرة من المحرمات ، التي يدخل الفساد بجميع صوره تحت مظلتها ، لايمكن أن ننطلق من تلك النصوص لنحكم على المجتمع المسلم بعمومه بالفساد ، أو أن نصف غالبه بالانحلال ، فالشريعة التي حرّمت المحرمات وحذّرت منها وبيّنت خطرها على المجتمع والأمة وعقوباتها في الدنيا والآخرة ، هي نفسها الشريعة التي نهتْ عن النظرة التشاؤمية للمجتمع المسلم ، فقد جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره : " إذا قال الرجل : هلك الناس ، فهو أهلكهم " ولهذا فإنه وفق المنهج الشرعي في هذه المسألة لا يمكن أن نفهم من الدعوة لمحاربة الفساد أو الجهود الرسمية التي تبذلها الدولة بقيادة خادم الحرمين الشريفين - أيده الله - والتي كان آخرها الأمر بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ، أن ذلك يعني أن الفساد لدينا أصبح ظاهرة عامة مقلقة وزائدة على القدر الطبيعي المعتاد في كل الدول والمجتمعات ، فالحقيقة التي ليس من العدل ولا الإنصاف تجاهلها أو إخفاؤها ، أن المملكة - بفضل الله - من أعلى الدول والمجتمعات نسبة في النزاهة وأقلها فساداً ، وكيف لايكون ذلك والمجتمع السعودي في عامته مجتمع متدين ينزجر بزواجر الشريعة، ويقيم وزناً لأحكام الحلال والحرام ، وأنظمة الدولة اشتملت على الكثير من الزواجر والوسائل التي تكفل حماية هذا المبدأ وصيانته . والعزيمة والقوة التي انتهجها خادم الحرمين الشريفين - أيده الله - في تحقيق هذه الغاية السامية إنما جاءت للقضاء على أي تقصير أو تراخ في هذا الميدان ، وشحذ الهمم وتوجيه الجهود نحو تحقيق هذه الغاية ، وذلك ضمن منظومة منهج شامل سار عليه - حفظه الله - لزيادة فرص المواطن السعودي في الرفاهية والعيش الكريم ، وضمان حقوقه وحماية مكتسبات الوطن ، والقضاء على كل المعوقات التي قد تحول دون تحقيق ذلك أو تسهم في تباطؤ إنجازه ، وهذه المعوقات هي الفساد بكل صوره . إذاً فإنه لا تعارض أبداً بين أن نعترف بوجود الفساد ونسعى لمحاربته وجهاده بكل أنواع الجهاد وبكل ما أوتينا من قوة ووسيلة ، وبين أن نعترف بما يمتاز به مجتمعنا وتحظى به دولتنا من نسبة عالية في مستويات النزاهة والصلاح والاستقامة (الإدارية والمالية). وأي إنكار لهذه الحقيقة أو تجاهل لها يقود إلى إنكار ما أنجزه الوطن منذ قيامه على عهد الملك المؤسس رحمه الله وأبنائه البررة الصالحين من بعده وصولاً للعهد الميمون لخادم الحرمين الشريفين - أيده الله - من منجزات حضارية وتنموية شاملة في شتى ميادين الحضارة والتقدم والتنمية التي أصبحنا فيها نضارع كثيراً من الدول المتقدمة فضلاً عن الدول العربية والإسلامية التي تشابهنا في الظروف والإمكانات . ألم تصبح مستشفياتنا قبلة ومقصداً لكثير من مواطني الدول الخليجية والعربية والإسلامية لطلب العلاج المتقدم والمنافس عالمياً ؟ ألم تقضِ المملكة في وقت قياسي على كثير من الأوبئة والأمراض التي كانت منتشرة في بدايات عهد الملك عبدالعزيز - رحمه الله -؟ ألم تقض المملكة على الأمية في وقت قياسي أبهر العالم ؟ وتحرز في تعليم المرأة رقماً لم يكن لأحد تصوره مع قوة الممانعة والجهل الفاشي في المجتمع السعودي الذي لم يكن يقيم وزناً لتعليم المرأة ؟ إني لو استطردت في سرد منجزات الوطن لما اتسع لذلك المقام ، فهذا شأن مما يفرد له مقالات عديدة ، فهل يمكن في ظل هذه المنجزات ، وفي ظل التقدم الباهر والنمو السريع للمجتمع السعودي أن يقال : إن الفساد عندنا يشابه الفساد في بعض الدول التي تمتلك من الثروات ما لا يقل ّ عن ثروتنا ، ومع هذا فما تزال تعيش حالة بدائية تفتقر لأبسط مقومات الدولة والمجتمع المتحضر ؟ في ظل أنظمة فاسدة أكلت الأخضر من خيرات الوطن وتركت للناس اليابس ، ولعل هذا أحد أبرز أسباب الثورات في بعض هذه الدول . إذاً فإذا كان الفساد لدينا لم يصل لدرجة الظاهرة العامة التي تبيح لنا وصف المجتمع بعمومه بها ، فلماذا نرى بعض الأجهزة الرقابية والوسائل الإعلامية لدينا تزايد على هذه القضية ، وتبالغ في تناولها ، وتبث الرعب في قلوب الناس ، وتسقط الثقة في الدولة وأجهزتها وإداراتها في نفوس المواطنين ؟ لماذا أصبحت كلمة الفساد أكثر كلمة تطرق أسماعنا وتخدش أبصارنا في وسائل إعلامنا صباح مساء ، بطريقة وأسلوب يقتلان في نفوس المواطنين عموماً وجيل الشباب الواعد الذي يعتبر هو عدة المستقبل ومعقد الأمل خصوصاً ، روح التفاؤل والطموح والثقة في الوطن ؟ إن الأسلوب الذي سارت عليه بعض الصحف خصوصاً في أسلوب تناولها ونشرها لبعض القضايا التي لا تعدو كونها كما يقول الأصوليون (قضايا أعيان) أو نشر تفاصيل تقارير بعض الأجهزة الرقابية الحكومية التي أصبحت تتسابق فيما بينها لإمداد الصحف بها ونشرها دون مراعاة لما يترتب على ذلك من آثار ضارة سلبية على سمعة الوطن وطمأنينة المواطن ، وهي أقرب ما تكون إلى الإرجاف في المدينة . كل ذلك لهدف ضيق محدود لا يتجاوز حصول الصحيفة على مادة للإثارة الصحفية ، تزيد في مبيعاتها وتروج لها ، بينما يحقق المسؤول في تلك الجهة الرقابية رصيداً إعلامياً ومنجزاً موهوماً على حساب مصالح الوطن العليا . وحين أقول منجزاً موهوماً فلا ألقي الكلام على عواهنه ، إنما أعني به حقيقته ، ذلك أن التقارير الرقابية الصادرة عن تلك الأجهزة المعنية والتي يتم رفعها للمقام السامي الكريم ، ليست سوى مجرد ملاحظات واتهامات لم تثبت ، ويبقى الحكم فيها لاحقاً للمقام السامي الكريم بعد بيان وجهة نظر تلك الجهة التي صدر التقرير بحقها . كما أنني حين أصف هذه التقارير بأنها مجرد اتهامات لم تثبت ، فإنني أنطلق من خبرة قضائية سابقة في ديوان المظالم حيث كانت ترد الآف القضايا المحالة من هيئة الرقابة والتحقيق ، متضمنة قرارات اتهام لكثير من الموظفين وغيرهم في جرائم رشوة وتزوير واستغلال نفوذ، وإساءة استعمال سلطة ونحوها من الجرائم المالية والإدارية ، ثم تنتهي نسبة كبيرة من ذلك بأحكام قضائية بعدم ثبوت تلك التهم . فإذا كانت مثل تلك القضايا أخذت طريقها إلى تسويد صفحات الجرائد ، وإزعاج نفوس المواطنين ، قبل ثبوت حقيقتها ؛ فمن يملك إعادة ترميم ومعالجة ما ترتب على هذا النشر المتسرع من آثار يصعب تداركها ؟ (وكيف وقد قيل ما قيل ؟). ثم هناك أمر آخر غاية في الأهمية ؛ ألا وهو أنه يجب التفريق بشكل تام بين الحديث عن جرائم أو قضايا أو تهم فساد بحق أفراد معينين أو قضايا محدودة ، وبين الحديث عن وصف جهة حكومية كاملة بالفساد ، فوالله ما كنا نحسب في يوم من الأيام أن تطالعنا إحدى الصحف المحلية المقروءة المنتشرة بعنوان بارز على صفحتها الأولى يقول : " الفساد والرشوة وراء تدني أداء الأجهزة الحكومية " في مزايدة غير مقبولة ولا تُشعر بحس وطني لمجرد تحقيق مبيعات وزيادة توزيع لتلك الصحيفة !. هل أصبحنا نقول للمواطنين في الداخل وغيرهم في الخارج : إن أجهزة الدولة ووزاراتها وإداراتها تعاني من فساد ورشوة حالا بينها وبين القيام بواجبها ؟ ألا يدرك ُ عاقل ما يمكن أن تؤدي إليه هذه النبرة في الإعلام من إسقاط هيبة الدولة وأجهزتها في نفوس الناس ؟ وتقديم ذرائع على طبق من ذهب لكل داع إلى الفتنة من المتشبثين بمثل هذه الحجج والذرائع لتأجيج الناس على دولتهم ؟ لقد صدق سماحة الشيخ صالح الحصين - وفقه الله - حين قال في إحدى الفعاليات : إن كثيراً مما تستعمله بعض الهيئات والجهات الخارجية للضغط على المملكة في ميدان الحقوق ، إنما يستمد مادته مما ينشر في بعض وسائل الإعلام المحلية . وفي مثال آخر طالعتنا بعض الصحف بتقرير لهيئة الرقابة والتحقيق تفيد فيه أن مياه منطقة القصيم ملوثة !! مما حدا بوزارة المياه وهي الجهة المسؤولة إلى أن تبادر بنفي هذا الخبر وتكذيبه والتحذير من نشر تقارير غير صحيحة تبث الرعب في نفوس المواطنين . إنني أجزم - وليس تحيزاً لكنها الحقيقة المشهود بها - أن صحيفة وقورة مثل جريدتنا (الرياض) لا يمكن يوماً أن تنجرّ في هذا المنزلق الخطير ، ولايمكن أن تقبل بتقديم مصلحتها الخاصة في تحقيق الإثارة الصحفية لمجرد زيادة المبيعات ، وتقديم مصلحة الوطن العليا ، وثوابته ، ومبدأ المصداقية والتثبت والسعي إلى الحقيقة ، ثمناً لتلك المصلحة الضيقة ، كما أنني أكاد أجزم أن مثل هذه الأخبار والتقارير الرقابية تصل ُلصحيفة الرياض كغيرها من الصحف ، لكنها لايمكن أن تتجاوز حنكة ومهنية وبُعد نظر ووطنية رئيس تحريرها ، الذي أوصلها إلى المرتبة الأولى عربياً في كثير من المجالات والميادين ، وجعلها مقصداً للباحث عن الخبر الموثوق ، والنقل الدقيق الملتزم . وختاماً فإنني أهيب من هذا المقام بأن تتضافر الجهود الرسمية وغير الرسمية للتنبه لهذا الخطر المحدق بوطننا ومواطنينا وأجيالنا القادمة ، وأن نتق ِ الله فيهم فلا نقتل في نفوسهم نظرة التفاؤل والأمل بمستقبل أفضل ، وأن نقف ونتريث كثيراً قبل تصوير الدولة بأجهزتها وأفراد مجتمعها بالفساد وكأنه لم يسلم منه مواطن ولا وزارة . وإذا كانت الأجهزة الرقابية جادةً في محاربة الفساد فليتها تسارع في تحقيق ما صدر به أمر المقام السامي الكريم رقم أ/66 26/5/1431ه بإحالة جميع المتهمين في قضية فاجعة سيول جدة إلى هيئة الرقابة والتحقيق وهيئة التحقيق والادعاء العام كل فيما يخصه بعد استكمال قضاياهم من جهة الضبط الجنائي استناداً للمواد (24 ، 27، 28) من نظام الإجراءات الجزائية وذلك للتحقيق فيها واستكمال الإجراءات النظامية بحقهم ويؤخذ في الاعتبار المسارعة في ذلك، لأنه إلى تاريخ اليوم لم تحرك تلك الجهات أي دعوى لمحاكمة هؤلاء المتهمين رغم تأكيد الأمر الكريم على المسارعة في ذلك . وما توفيقي إلا بالله هو سبحانه حسبي ونعم الوكيل . *القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً