1 يلاحق الشاعر والكاتب عباس بيضون في كتابه الصادر حديثا عن دار الساقي مرايا فرانكنشتاين نفسه ويحاصرها بدءاً من ملامح الوجه وليس انتهاء باستهيامات الجسد التي كانت تنغص عليه إعجاب المرء المراهق الشاب، والرجل الناضج بذاته. يربكنا وهو يجتاح الشهوات جميعا في نهاية الأمر، يغشاها ويغسلها أمامنا في انتظار الخضوع والطاعة لها. اسمعه يدمدم من بين أسنانه حين يسمع صوته في المسجلة فلا يتعرف عليه ربما، مثلنا جميعا. فالصوت البشري لا ينتمي لصاحبه تماما في أثناء الحديث والكلام، من الجائز يتوصل إليه حين يتفنن في إخفائه بالسكوت لكن الأمور لا تحدث مع البشر هكذا ولا عبر هذه المسالك فنحن نثرثر ونغلط، نتشاجر ونزهق من داخل ألسنتنا غير المتجانسة فلكل منا نسق أجنبي، ربما. هكذا أتذكر صوت عباس بيضون في أوائل السبعينات حين تعارفنا في بيت الناقدة والصديقة يمنى العيد في مدينة صيدا وإلى اليوم في نبرته شجن وسخرية، كأنه على وشك أن يحرد ويختفي فلا نعود نراه ثانية: "تكلمت مرة في الكوليج دوفرنس في ندوة لشاعرين عربيين فقيل إنني إيراني فلا مجال لوصف لهجة كهذه إلا بالقول إنها أجنبية ". كلما أتوغل عميقا في الفصول اسمع صوت النداء فهذا كتاب يرتبط بمن عاش في انشغالات العزلة والمرض، الحروب بجميع أنواعها، في أسرار الهشاشة وأشواق الذين فروا وقضوا ولم يعد باليد أية حيلة إلا بضبط الكلمات على مقاساتهم. هذه المرايا تلبي النداء المميت فأتصوره على مقاسي أنا أيضا وأعثر فيه على شبر من إقامة التواد في إحدى سني العمر الفتان والحامل لجميع أنواع الصبوات. شعرت هو كتاب يحميني حين يحمي لعثمة لساني الخاص والأجنبي معا وعباس يحاول تعلم الفرنسية. اقرأ وابتسم وأردد ؛ تابع يا عباس، حذار من التوقف فما زالت التأتأة في تعلم اللغات تغزو أكثرنا فتدفعنا للإلحاح في التعلم: "كنت أميا بالفرنسية وعليّ أن أبدأ من الأول، لكنه طريق طويل. تعلمت واستمررت في التعلم. ومّر الوقت وأنا أتعلم وما زلت حتى الساعة أتعلم". الشاعر يلقن شخصه ما يستحق من الجنون بالحياة والإبداع، بالمعارف والفنون، في التأمل والتحليل وكأنه لم يعش الحياة بعد إلا لأنه كتبها وبالدرجة الأولى. فكانت النداءات تتوالى وطوال 157 صفحة لا تخلو من عذاب بدا في بعض الأحيان لا نهاية له وبعضه كان يتخلص منه بتوبيخ ذاته بالفكاهة المرّة : " كنت طفلا جميلا بشهادة أمي لكن مع المراهقة بدأ يخرج من الملامح اللطيفة عكسها طال الوجه حتى غدا كالحذاء وتضخم الأنف وقسا الشعر حتى غدا كالبلاّن ". 2 يقوم الكتاب على تفكيك آليات شديدة الغور في النفس البشرية بجوار التدريب على تفكيك المعارف في الفلسفة والفن والثقافة والدين. وبدون هواجس تراجيدية ينقاد السرد في مخيلة يقظة وماكرة جدا. في قراءة خصوصية لعموم خطوط فرار الذات، في الخوف والمرض، في المستشفى النفسي بباريس وما طُمر بين الضلوع، من الذي لا يقال إلا بهذه الطريقة ما بين الرأفة والتسامح للنفس والآخر: " في ظل كل صداقة مجموعة مخلفات يصعب تحريرها منها. مرايا يمكن القول إنها حزازات عالقة. بعض الموتى يعودون إلينا ليقاضونا الحساب بعد عشرين سنة وهي فترة كافية لتصير زياراتهم مصدر رعب". هذا نوع من الالتفاف على الشوق والحنين فهناك كائنات بلا عدد يحيون داخل جمجمة بيضون، أحيانا يجتمعون بلا موعد وبلا تعارف كما حصل في أثناء حفل رأس السنة حين يجد الشاعر نفسه يدور راقصا مع سيدة غير التي حضر معها!. في كل فصل أعثر على كائن يحسن الاعتراف وهو يحك الجرح ومن الداخل. يصمم على المعاينة التي تضاعف الحيرة والإحباط. معظم فصول الكتاب شديدة الإيلام والتفرد، لكن أخطرها فصول المرض والصداقة، التفكير والأرق الأبيض: " قال زاهر في لحظة توتر إنهم تركوني أقرع الباب ولم يفتحوا. كان هذا شراً لا يطاق. قتلني هذا وإن جاء متأخرا. قتل شيئا ما على الأقل. ومع ذلك استمررنا معا سقط التنكر لكن الصداقة بدون قناع هي أيضا صداقة " هذه أقصى حالات الضنى والنرجسية سويا، فنحن حين لا نكتب عن الطاقة الفوارة لدينا، عن القوة الفائقة حين لا نخاطب الصحة ولا نميل، أو لا نعرف إلا هذا النوع من الصوت الذي لم يتقطع فوصل لصاحبه المؤلف ذاته، نعوض عن تلك الضعضعة والهشاشة الوجودية بالفن، بهذا النوع من الأخوة التي يصعب إدراكها حين ندونها هنا فهي وفرت لي شخصيا شيئا من هناءة وبهاء بالصداقة ذاتها. لم أحب كلمة ديون فهي تذكرني بالفلوس! حسنا فلنقل طمأنينة الصداقة. 3 من كل فصل أحصل على غنيمتي ووفرة من الأغذية التي تدعني أمكث طويلا على هذه المائدة الشهية واللذيذة والموجعة. الكتاب لا يلقن الدروس ولا يقول إنه صاحب آراء صائبة في الأحكام. أشتغل بالسياسة كما نقول في بلداننا، التحق بالحزب الشيوعي ثم هجره إلى منظمة العمل الشيوعي. سجنته إسرائيل في سجن الخيام ولو لم يرد ذكر ذلك فهو لا يحب أدوار الضحايا ولا الأبطال، ربما. يتحدث عن الأيمان وعدمه بذات القدر من يبحث عن المعنى والذات والولع بالوجود. حاول بيضون قراءة الفن الحديث فتعلم ذلك ولوحده عبر المشاهدة والدراسة والبحث والتقصي خلال لوحة لفنان فرنسي: "رؤية لوحات غوغان شيء آخر، نغمة غير منتظرة. كان عليّ أن أبقى ساكنا وأنظر فقط ولا أحتاج لأن أحرك عيني أو انقلهما ما بين السطور". الشاعر يمسك بالإيحاء والمخيلة ولا يريد الانتهاء من الشنتة هذه الكلمة الفاتنة الطفولية تعني أشياء هائلة ولا نصل لحدودها:" أظن أن الشنتة ارتبطت في ذهني بتلك السياحة في الحقول وفي الأفكار. الشنتة المفتوحة تؤمن ذلك أكثر. التفكير لم يكن في الذهن فقط. كان يتم بالأيدي والأرجل والرأس ويتم بالمشي والركض .. " في فصول الكتاب نتصور أن هذا تدوين فوري يغرف من بحر صيدا الذي كان ما أن يمد يده حتى يلامسه لكن، هذا كتاب كتب كما تمر اللحظات فلا تريد أن ينفد الزمن. عباس قام بتحضير كتاب إجرامي بمعنى الشر الحقيقي للكتابة، في نثر حارق يأخذ بتلابيبنا وعلى محمل السخرية والجد والهزء بالمجزأ منا والمبدد، بالسقم والإعياء، بالسهو والنسيان الذي ينضح بين السطور وفي أثناء الصداقة. أمر شديد الأهمية أن يلهمنا الشعراء، بعضهم، كل هذا الشغف في بداية الأمر ونهايته فإذا لزم الحال فلماذا لا نقرأ شذرات، خفقان، وجدْ لا على غرار أية كتابة ولا هناك رغبة في التأطير وبأية شكل من الأشكال. أظن عباس بيضون في هذا الكتاب وانسي الحاج، عبده وازن، فاروق يوسف وعيسى مخلوف وغيرهم وغيرهم كثر ، يكتبون كتبا غير منتهية ، سقوفها شاهقة وثرواتها مخبوءة . كتب لا تحصى ، نظل في عطش لها كأمواج الروح، تلتف، تنفرط، تشتد ثم تقوم بالذود عنك أين ما كنت أو تكون: " ما زلت حتى اليوم أعمل كمن يلعب. مثل كل القلقين أسرق متعتي. أسرق كثيرا وكل يوم ولا أعرف إلى متى يدوم ذلك. أستطيع أن أعمل عملين لكي لا أكون في أحدهما. لا أشعر كثيرا بالوقت مثل كل الملتهبين بنشوتهم".