لو كان النزاع على الأشخاص في التاريخ العربي يتغيا نزاعا على المبادئ في مؤداه الأخير ، كما يزعم بعضهم ؛ لتم التغاضي عن البعد الشخصي في سياق التجارب التي حاولت مقاربة النموذج / المثال مِن قِبل آخرين من خارج منظومة الأشخاص ذوي الاعتبار الرمزي الخاص لقد كان الإنسان غائباً عن النظرية السياسية في التراث العربي ، بل والنظرية السياسية ذاتها كانت في هامش المُفكّر فيه ؛ رغم أن أول خلاف كبير بين المسلمين كان حول السياسية ، ومن أجل السياسية ، وأول معركة داخلية أريقت فيها الدماء بين أتباع الدين الواحد كانت نتيجة ( وسبب !) سياسة ، بل كانت ، في عمقها المُحصّن اليوم ضد كل أنواع التفكير الموضوعي ، نتيجة حيرة وتخبط وعجز في العمل السياسي ، ذلك العمل الذي كان ، في أفضل حالاته النظرية والتطبيقية العملية ، اجتهادا فرديا خاصا ، وليس عملا منظما مرتبطا برؤية كلية تتّسم بشمولية الأبعاد . هذا هو واقع الحال في زمن البدايات ، وحتى بعد ذلك ، عندما حاول بعضهم ( في تاريخنا المجيد !) ممارسة حق الاعتراض السياسي ، ذلك الاعتراض الذي حاول أن يعبر من خلاله عن رؤيته السياسية ، كان سؤاله المحوري يتلخص في : مَن يحكم مَن ، ولماذا يحكم فلان ولا يحكم فلان ؟ ، ولم يكن متمحورا حول الأهم سياسياً ، وهو : ( كيف ) يحكم من يحكم ؟ . أي أن السؤال السياسي في التاريخ الإسلامي كان سؤالَ نزاعٍ على السلطة ، كان سؤالَ شهوةِ تسلط ، ولم يكن سؤالَ نزاعٍ على طبيعة السلطة ، أو حتى على مبادئ إصلاح السلطة . ومن الواضح أن ( سؤال الكيف ) في المجال السياسي، هو السؤال الذي لا يزال هامشيا في ثقافتنا ( أقصد تحديدا : الثقافة المؤثرة جماهيريا ) حتى الآن . صحيح أن النزاع على الشخصية ( = سؤال : مَن ؟ ) كان في بعض الأحيان نزاعاً على المبادئ التي تتمثلها الشخصيات السياسية ذات البعد الاعتباري الواضح ، والتي تطرح - بطريق غير مباشر ، وبطبيعة حضورها الرمزي - ( سؤال الكيف ) . لكن ، وبما أنه لم يجرِ فيما بعد ( وخاصة في سياق خطاب الورثة الفكريين للتيار المتمحور حول الأشخاص ) تطوير الرؤية ؛ لنقْل السؤال من الشخص إلى المبدأ ؛ فقد بقي الوعي العربي ، في عمومه ، يتمحور حول الأشخاص المتنازعين على السلطة ، أو حتى على نوع من السلطة التي لا تزال - بشتى تنويعاتها - تحرّك مكامن وجدان الإنسان العربي من المحيط إلى الخليج ، ومن زمن طسم وجديس وكليب وائل في القديم ، إلى زمن القذافي وصدام حسين في الحديث . لو كان النزاع على الأشخاص في التاريخ العربي يتغيا نزاعا على المبادئ في مؤداه الأخير ، كما يزعم بعضهم ؛ لتم التغاضي عن البعد الشخصي في سياق التجارب التي حاولت مقاربة النموذج / المثال مِن قِبل آخرين من خارج منظومة الأشخاص ذوي الاعتبار الرمزي الخاص . ولكن هذا لم يقع ؛ إذ كانت الشخصنة المرتبطة بإرادة التسلط ، سواء من قِبَل صاحب السلطة أو من قِبَل أنصاره الذين هم صانعو سلطته ، واضحة في شتى صور الصراع السياسي العربي ، وكان المبدأ يتعطل بمجرد خروجه من دائرة الأشخاص ، أي من دائرة التحزبات المصلحية لهذه المجموعة أو تلك ، إلى دائرة المبادئ المعزولة عن علائق الأشخاص وعن شبكة المصالح . من هنا ، يمكنك أن تلاحظ أن أكثر الفترات السياسية التي تمثل إضاءة لافتة في الوعي العربي هي فترات ( = عهود ) أشخاص ، لا عهود مبادئ . إنه زمن/ عهد ( فلان ) و( علان ) ؛ حيث مزاجية الأشخاص هي ما يحدد درجة جودة فترة الحكم ، وليس النظام السياسي المرتبط بمبادئ إنسانية عامة ، وقوانين طويلة الأمد ، أقصد : النظام الواسع ، العابر المتجاوز لمحدودية فعالية الأشخاص ، ولمحدودية زمن الأشخاص . لهذا السبب ؛ لم تكن ثمة نظرية سياسية عربية / إسلامية تستهدف الإنسان على نحو واعٍ من جهة ، وعلى نحو يجمع بين المثال والواقع من جهة أخرى . لم يكن هناك شيء من هذا ، بل ولم يكن هناك سعي حقيقي لصناعة شيء من هذا ؛ إذ التمحور حول الأشخاص كان قد استنفد كل الإمكانات المتاحة في زمن البدايات الأولى ، وكانت الشمولية الواضحة آنذاك في كل حراك سياسي شمولية ضاغطة بقوة بُعدها الغائي المتعالي ؛ بحيث كانت قادرة على أن تغلق كل الأبواب المؤدية إلى إمكانية تأسيس زمن الإنسان الفرد ، زمن الإنسان المتحرر من كل إطار شمولي قامع ، زمن الإنسان الإنسان . لقد كان الإنسان في النظرية السياسية العربية / الإسلامية يُمثّل غياباً في غياب ، مهمشا في هامش ، مقموعا في مقموع ، ممنوعا في ممنوع ، إذ كانت النظرية السياسية ذاتها مهمشة ، ومقموعة ، وممنوعة إلى حد كبير ، كما أن الإنسان داخلها ( في حال حضورها النسبي ) كان مهمشا ، ومقموعا ، وممنوعا إلى حد كبير أيضا . وتبعا لذلك غابت الرؤية الفلسفية السياسية عن تراثنا ، ونتيجة غياب الرؤية الفلسفية السياسية ، كانت ولا تزال ، كل الثورات والانقلابات والإصلاحات في عالمنا العربي لا تمثل أكثر من ( انتقال سلطة ) ، انتقالًا لا يتبعه تغييرٌ يذكر في طبيعة السلطة ، وخاصة في طبيعة علاقتها بالإنسان . في عالمنا العربي ، كانت ، ولا تزال ، تجري الأمور غرائزياً ؛ إذ لم يُناقَش بشكل جِدّي وشمولي ( أي على نحو فلسفي . وطابع العقل الفلسفي ، كما يقول ويل ديورانت ، ليس في دقة النظر بمقدار سعة النظرة ووحدة الفكر ) موقع الفرد من المجتمع ككل ، المجتمع بكل تشكلاته ، موقع الفرد من سلطة المجتمع أو سلطات المجتمع : سلطة البيت ، وسلطة الثقافة السائدة ، وسلطة القبيلة ، وسلطة الحزب ، وسلطة الدولة ...إلخ، أنواع السلطات ، تلك السلطات القامعة ، والتي هي في عالمنا العربي تنطلق في اتجاه واحد ، اتجاه يستهدف الفرد ، بينما كان يجب أن تخضع لجدلية العلاقات . ولأن الفلسفة السياسية كانت غائبة عن منظومة الفكر العربي ، فقد كان عجز الإنسان العربي عن تحديد طبيعة علاقته مع السلطة واضحاً ، بل كانت العلاقة أزمة ؛ ولا تزال . الإنسان العربي لا زال لم يستوعب فلسفة السلطة ؛ لأنه لم يشتبك أصلا مع الإطار الأشمل المتمثل في الفلسفة السياسية ، أي الفلسفة التي تطرح الأسئلة باستمرار حول طبيعة علاقة الفرد بالمجتمع ، من خلال طرحها للأسئلة حول علاقة الفرد بكل أنواع السلطات التي يفرزها المجتمع المحيط.. إن غياب الفلسفة السياسية عن وعي الإنسان العربي قديما وحديثا ، أدى بهذا الإنسان إلى أن يظهر في حالتين من العجز : فهو إما أن يتمرد تمردا فوضويا عشوائيا عبثيا على كل سلطة وعلى كل نظام ، ويعيش حالة عدوان تخريبي مباشر على المجتمع ، أو على مؤسسات المجتمع التي تجسد حضوره ( = المجتمع ) في الواقع كنظام ، وإما أن يخضع ل( كل أنواع السلطات !) خضوعا تاما ، خضوعا ذليلا ، خضوعا غيبيا !، خضوعَ إنسان القطيع ، خضوعا يفتقد حتى حق اختيار الخضوع ذاته ابتداءً ؛ فيظهر وكأنه مجرد آلة صماء ، بل ، وأحيانا ، كآلة قهر وعذاب وإذلال بيد زبانية الطغاة ، أو آلة إخضاع وإخناع وترويض بيد مُشرّعي الاستبداد وخدام الاستبداديين . إن الإنسان العربي في سياق هذا العجز الذي يتلبسه في كلتا الحالتين ، لا يستطيع أن يتعاطى مع وسط تنظيمي دقيق ، وسط حقوقي تكافؤيّ ، لا يستطيع أن يطيع القوانين والأنظمة ؛ مع احتفاظه التام بحريته الفردية ، حريته الخاصة التي تمنحه هوية وجوده الحقيقي المتعين في الواقع ، كما أنه ، من جهة أخرى ، لا يستطيع أن يتمرد بكل ما يمتلكه الإنسان من أشواق الحرية على السلطات القاهرة التي تمارس إذلاله باستمرار ، إنه لا يستطيع أن يعيش فرديته المتمردة ؛ مع احتفاظه بكرامة الإذعان للنظام العام . طبعاً ، لا يمكن تغطية هذا العجز الكبير الناتج عن الفقر المدقع في مستوى ما يتم طرحه من إشكاليات تتعلق بالفلسفة السياسية ، إلا بالجدل النقدي حول كل تلك الإشكاليات . لا يمكن صناعة أجيال واعية سياسيا ، واعية بإشكاليات العلاقة بين الفرد والسلطة ، إلا باستعراض ( توصيفي ونقدي ) الفلسفة السياسية منذ ما قبل السوفسطائيين وسقراط ، حيث الجدل حول الإنسان ، وحول الديمقراطية قبولا ورفضا ، وانتهاء بفوكوياما وتشومسكي ؛ حيث الجدل حول الخيار الليبرالي الغربي عند الأول ؛ وحيث الجدل حول العلاقة مع السلطات المهيمنة الممتلكة لقوة القهر عند الثاني ، مرورا بكل ما خطه فلاسفة التنوير ، وخاصة في مبحث ( العقد الاجتماعي ) ؛ مع ربط ذلك كله ، من حيث هو رؤى نظرية ، بالواقعي المنبعث بوحيه ، أي بما خطته دماء الأحرار على أرض الواقع من وقائع لا تزال تُكتب بحروف من نار..