يعبّر الناس عن السلطة والثقة بالنفس برفع الرأس ونفخ الصدر وعقد اليدين خلف الظهر (كالضباط الذين يتفقدون جنودهم كل صباح) .. وهم يظهرون امتلاكهم للأشياء باتكائهم على المرسيدس (في الشارع) أو تعليق صورهم أمام القصر أو اليخت (في المكتب) أو حتى رفع الرجلين فوق المكتب ذاته لتأكيد هوية المالك والمتصرف بكل ما حولك .. وعلى ذكر "الرجلين" تعبر المرأة عن ارتياحها أمام الرجل بخلع حذائها في حضرته وتلاشي قدرتها على وضع رجل فوق رجل .. أما الرجل فيعبر عن إعجابه بالمرأة بالتحديق بها وإطالة النظر فيها والضحك بغباء على أي نكتة بايخة تلقيها...!! وهذه مجرد نماذج أتذكرها لتصرفات تلقائية يفعلها كافة الناس في المواقف المشتركة وأنظر إليها شخصيا ك(نوع ثالث) من الفراسة ... فالنوع الأقدم من الفراسة يعتمد على دراسة الهيئة الجسدية والملامح الخارجية كتعابير الوجه، وتضاريس الرأس، وتركيبة الهيكل العظمي ووو ...!! أما النوع الثاني فإلهام وفتح يلقيه الله في قلب المؤمن التقي مصداقا لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" ! ولكن؛ بما أن التقوى حالة نسبية وفضل يؤتيه الله من يشاء .. وبما أن هيئات البشر وسيلة مطاطة وعنصرية تضع شعوباً كاملة تحت مظلة واحدة ؛ أفضّل شخصيا الاعتماد على حقيقة أن (الناس تُظهر في المواقف المشتركة تصرفات متشابهة)... فالناس (في المصعد) مثلا لا ينظرون في عيون بعضهم بصرف النظر عن هيئاتهم وجنسياتهم وانتماءاتهم الدينية .. ويكمن السر في أن لكل انسان "مجالا حيويا" لا يود اقتحامه من قبل الأغراب الأمر الذي يفسر لماذا نجلس (بعد آخر كرسي فاضي) في المطارات والمدرجات والحدائق العامة .. أما حين تجبرنا الظروف على الاقتراب بشدة من الأغراب (كما في المصعد أو الطائرة) فتجدنا ننظر في كل شيء ما عدا الالتقاء بعيونهم مباشرة.. وبمعرفة هذه الحقيقة يمكننا "تخمين" قوة العلاقة بين الناس بحساب مسافة القرب بينهم.. فالشخص المرتاب - أو الذي لايعرفك جيدا - يبتعد عنك بجسده ويتحاشى الدخول معك في حديث موسع .. وفي المقابل تميل المرأة المحبة باتجاه زوجها في السيارة ، في حين تبتعد الغاضبة حتى تكاد تتكئ على بابها الأيمن !! ... أيضا يمكنك معرفة التسلسل القيادي في أي مجموعة (كما فعلت المخابرات الأمريكية مع أعضاء القاعدة) بمراقبة هذه المجموعة أثناء سيرها.. فالأشخاص الأقل مرتبة يتباطأون في مشيتهم كي يكون الرئيس أو الأمير في المقدمة .. أما إذا أجبرتهم الظروف على تقدم رؤسائهم - كما قد يفعل موظفو العلاقات العامة - فتجدهم ينظرون دائماً للخلف كي يضبطوا خطواتهم معهم ولا يتقدموا عنهم بمسافة كبيرة.. أما بخصوص تصرفاتنا (أثناء استعمال الهاتف) فمن الملاحظ أن المتلقي ينتصب (كالجندي) حين يخاطب رئيسه أو شخصا يهابه .. أما حين (يأخذ راحته) أو يضع رجلا على رجل فإنه يتحدث في الغالب مع صديقه أو قريبه أو حتى خطيبته (... وحين تصبح خطيبته زوجته يتقلص وقت المكالمة بحدة ويحدثها مثل أي سعودي .. معطياً ظهره للجمهور) !! ... وهذه كلها مجرد أمثلة لتصرفات لاواعية يفعلها الناس في المواقف المشتركة .. وفي حال كنت مهتما بهذا الموضوع يمكنك اعتمادها كأساس تنطلق منه لرصد كافة التصرفات المشابهة التي يتخذها الناس حولك .. ليس هذا فحسب ؛ بل إن مجرد تنبهك لوجودها يتيح لك السيطرة عليها ونقلها من حالة اللاوعي والتلقائية إلى حالة الوعي والسيطرة .. والثقة الكاملة !!