بينما العالم من حولنا يموج ، بموجات متكسرة ومتضاربة ،أمواج من بشر وأمواج من أخبار ، ويلوّن بالأحمر أو الوردي أو الأسود من دخان .. وأمواج كثيرة ترمينا للجة بحار متعددة ، أفكار تعصف أحيانا وتزعج، وأحيانا تريح ، وتتناوشنا حمى الأخبار ، وأصوات ما بين طلقات نار وتأجج .. لجة ما بعدها لجة .. ومن هذه اللجج سأهرب بكم بعيدا زمنا ومكانا .. إلى بحار عميقة ومحيط أعمق مزرق يتكسر بفعل الرياح .. انني أشك أن( ابن ماجد) من سيّر سفينة (كولومبس) حتى رست على الأرض الجديدة ، لأنه بصراحة يذكرني بحكاية رجل دعا أن تمطر السماء ذهبا ، حتى تؤجره عائلة (فلان) ليجمع لهم وليس لنفسه .. لذا كان أولى بابن ماجد أن يأخذ الأرض الجديدة له أو لدولته . لكن الذي لا شك فيه أن أحفاد (ابن ماجد) ركبوا البحار إلى أمريكا . وسنعبر الزمان لعام 1840م ، حيث كانت السفينة سلطانة ، التي أمضت ثمانية وسبعين يوما مبحرة من عُمان إلى نيويورك .. ترسو على شاطئ نيويورك .. وينزل منها رجال يثيرون العجب والدهشة والفضول معا ، إنهم أول رجال عرب يصلون ليكونوا ممثلين للسيد سعيد بن سلطان ، سلطان عمان ، وناثر أشعة إمبراطوريته عبر مساحة واسعة ، تشمل جزائر من باكستان ، وزنجبار(تنزانيا حاليا) وعُمان ، وموزنبيق .. وكوّن أول أسطول بحري عربي في القرن قبل الماضي ، لطرد البرتغاليين . على الباخرة (سلطانة) كانت الرحلة التي حملت أول مبعوث سلطاني (الشيخ أحمد بن النعمان الكعبي ) إلى أمريكا . تمهيدا لتوطيد علاقة المشرق العربي بمغرب الدنيا أو بالعالم الجديد ، كما كان يسمى .. من يقرأ كتاب ( بعثة أحمد بن النعمان إلى الولاياتالمتحدة في عام 1840 )لمؤلفه هيرمان فردريك ايلس ، وترجمة د. صالح البلوشي .. سيجده كتابا ممتعا عن تلك الرحلة ، بكل فصوله ، عن رجال سمر بثياب بيض بسحنات غربية على ذلك العالم ، فلا هي سوداء كما الأفارقة الذين تجلبهم البواخر المحملة بالعبيد ، ولا هم بيض كالأمريكيين العاديين ، ولا هم يشبهون الهنود الحمر أهل الأرض الأصليون ، كأنما الله عجن الجميع وخلق منهم هؤلاء الرجال القادمين بحضارتهم وسفينتهم( سلطانة ) المبنية في الهند والقوية التي اجتازت البحور العظام . الكتاب ممتع جدا ، لعل أكثر الإمتاع فيه هو الجزء الرابع منه والذي يتحدث عن الهدية التي حملها النعمان إلى الرئيس الأمريكي آن ذاك ( مارتن فان بورن )، التي أثارت شائعات كثيرة وتكهنات .. وقبل أن أصل للشائعات يجدر الإشارة للحفاوة التي وجدها الموفد(أحمد النعمان) وصحبه ، من ذلك الحفلات التي أقيمت على شرفهم ، وكان مرد الحفاوة إلى أمرين رئيسيين الأول هو بناء علاقات مع المشرق ، من جهة لما لهذا المشرق من مواقع إستراتيجية ومثيرة للفضول .. والثاني رد الجميل (كان الأمريكان يردون الجميل!!) إذ عندما جنحت سفينة أمريكية في بحر عُمان ، هب لنجدتهم أهلها وعالجوا جرحاهم ، وأصلحوا لهم سفينتهم وحملوهم مواد التموين .. نزل الرجال الأرض الأمريكية فكانت الفكاهة والطرافة ، من الطريف أن ما يشبه المظاهرات كانت تسير خلفهم ، بعضهم يلمس ثيابهم وبعضهم يحاول مخاطبتهم ، أما البعض الآخر يتجرأ أكثر فيمسك لحاهم ليتأكد أهي حقيقية ، أم صناعية .. وأصبحت الجموع تصعد للسفينة لتكتشف عالم هؤلاء الغرباء المذهلين واللطفاء معا .. مما اضطر الحكومة لوضع حراسة خاصة للبحارة والوفد وللسفينة عموما ، مرافقتهم في الطرقات ، خوفا عليهم . الهدية أثارت خيال الناس وسرت الشائعات التي راحت تتكهن بالهدية نوعا وشكلا وموضوعا . الهدية التي شكلت لغزاً لم يحله إلا رؤية الهدية ذاتها.. وفي المقال القادم أكمل