الاحتفال بعودة الملك عبدالله إلى ارض الوطن ليس استعراضا سياسيا وليس احتفالا مصطنعا يقيمه الشعب السعودي بل هو تعبير حقيقي لما يحمله أبناء المجتمع تجاه هذا الإنسان القائد فالفرحة هي تعبير سبقنا إليه الأطفال والشباب بكل وضوح، وتزينت به قلوب المجتمع السعودي قبل مدنهم، وقد رغبت طويلا في الكتابة عن ثقافة الحكم في المملكة العربية السعودية وآليات بناء علاقتها مع الشعب السعودي. ولعلني استثمر هذه المناسبة الجميلة لعودة خادم الحرمين الشريفين حفظه الله إلى ارض الوطن بعد رحلته العلاجية، لكي أكتب عن هذه الثقافة وعن القيادة السياسية بتكاملها وتعاملها مع الشعب السعودي. إن عودة خادم الحرمين الشريفين إلى ارض الوطن مناسبة أكثر من سياسية فقط فخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله حفظه الله يعتبره كل فرد في الشعب السعودي أباً له، ولنا أن نتصور كيف يضع الأبناء آمالهم وطموحاتهم في آبائهم الذين يحبونهم هناك ثلاثة محاور رئيسة تعتمد عليها ثقافة الحكم في هذا الوطن والتي تكمل ما يقارب خمسمائة عام من حكم الجزيرة العربية، هذه المحاور هي : المحور السياسي ثم المحور الاجتماعي ثم المحور الفكري ، في المحور السياسي استطاع الحكام المؤسسون من آل سعود أن يقدموا نموذجا مختلفا لعملية توحيد مناطق كبيرة ومتشتتة في الجزيرة العربية خلال الأدوار الثلاثة للدولة السعودية. فكانت تجربة الملك عبدالعزيز تجربة غير مسبوقة في دمج تكوينات (جيوسياسية) مع بعضها البعض لتشكيل كيان سياسي لم يتشكل بنفس الصورة خلال قرون طويلة مضت ولذلك ولكون هذه التجربة غير مسبوقة تاريخيا فقد واجه مؤسس الدولة السعودية الثالثة كثيرا من المهام الصعبة لإعادة تشكيل كيان موحد تحت اسم المملكة وقضى ما يقارب الأربعين عاما وهو يهدف إلى صياغة وطن وهوية تتشكل بطرق تاريخية واجتماعية وفكرية تخص الجزيرة العربية وحدها ، وهذا المسار واضح في تاريخ الجزيرة العربية الحديث. الجزيرة العربية لمن يقرأ تاريخيها لم تكن في تشكيل وحدوي بهذه الصورة الجغرافية والسياسية من قبل إلا في فترات محدودة من التاريخ لذلك كان الجهد مضاعفا من مؤسس الدولة السعودية الثالثة لصياغة الكيان السعودي والذي أحب أن أطلق عليه (الأمة السعودية) لعدة اعتبارات تاريخية وجغرافية وفكرية. لهذا السبب يبدو المحور السياسي لتشكيل المملكة منعطفا تاريخيا ينمو مع السنوات نحو مزيد من الصلابة التاريخية كما نراها اليوم في رأي الشارع السعودي عن الوطن ومكتسباته التاريخية عبر السنوات حتى أصبح الرهان على الكيان السياسي رهانا مرتبطا وبشكل تلقائي على من ساهم في تشكيل هذا الكيان وبنائه. المحور الثاني وهو المحور الاجتماعي حيث تشكلت ثقافة الحكم في السعودية بعلاقات رأسية وأفقية مع تكوينات المجتمع والدليل على ذلك طريقة التواصل الكبيرة بين أفراد المجتمع الواحد فليس هناك فوارق مجتمعية تفرض التسلسل الطبقي بين الفئات المجتمعية ، والتداخل الأفقي والرأسي لم يكن على صورة علاقات اجتماعية فقط بل يذهب إلى ابعد من ذلك بكثير؛ حيث نشأت علاقات قرابة قوية ساهمت في التقارب الاجتماعي وأصبح الوصول إلى أي طرف في الهرم سهلا لمن يريد بنفس سهولة الوصول إلى بقية مكونات الهرم الاجتماعي. هذه الثقافة أبقت على تكوين اجتماعي مختلف حيث فرضت هذه الثقافة مساحة كبيرة للكل في المجتمع للاعتزاز بكيانه القرابي والمكاني والقبلي والعائلي دون مساس ، وهذا كما أعتقد شكل عنصر قوة في المحور الاجتماعي وخاصة عندما تساهم القيادة السياسية للمجتمع بمشاركتهم عناصر الفخر والاعتزاز التي يحتاجها المجتمع وأفراده للتعبير عن نفسه بشكل مكتمل وحقيقي وهذه الصورة واضحة في المجتمع السعودي وثقافته. المحور الثالث وهو المحور الفكري فالمملكة بلد الحرمين الشريفين وهذا المعيار ليس من السهل تجاوزه دون تحديد متطلباته فلذلك نشاهد بشكل خاص أن الخطاب السياسي لمؤسس الدولة السعودية الثالثة مرتبط وبشكل كبير على منهجية تحقيق الإسلام ومتطلباته اجتماعيا على اعتبار أن هذه الدولة تشكل محورا رئيسا للإسلام بوجود الحرمين ، وقد ظل هذا الخطاب متسقا مع كل المراحل التي عاشتها المملكة بعد مؤسسها ولذلك نلحظ أن هذه الثقافة حرصت على التوازي وبشكل كبير مع الفكر الاجتماعي الحقيقي، وضمنت سلامته عبر تطبيق معايير الإسلام وتنفيذ وعودها الخاصة بتطبيق هذه المعايير من خلال بناء ثقافة مجتمعية تعتمد الإسلام كعنصر رئيس في ثقافة المجتمع. هذه المحاور الثلاثة هي في حقيقتها شكلت نموذجا مترابطا من بناء سياسي وبناء اجتماعي وبناء فكري وهي كما أعتقد جزء من ثقافة سعودية تم ترسيخها على مر العقود لبناء سلسلة كبيرة من العلاقات المترابطة بين المجتمع ككل على اعتبار دائم بأن القيادة السياسية جزء لا ينفصل عن المجتمع إنما هو موجود في داخله وهذا احد مقومات الثبات التاريخي لهذا الوطن والمحافظة عليه. في هذه المرحلة التاريخية تتشكل الصورة القائمة للمملكة من خلال العلاقات المميزة داخل المجتمع فكل القيادات السعودية منذ عهد الملك عبدالعزيز والى اليوم هي تعبير حقيقي عن مراحل متطورة ومراحل تغيير حقيقي فكل مرحلة تاريخية تشهد تحولات مختلفة ونموا وتطورا مطردا يوازي الحدث والزمان والتاريخ الذي يوجد به. الملك عبدالله حفظه الله الذي ارتبط اسمه بالإصلاح والبعد الإنساني وشكّل امتدادا لمراحل كبيرة سبقت عهده ولذلك نشهد الكثير من التحولات التي قادها خادم الحرمين فالمجتمع السعودي الذي يشكل الشباب فيه النسبة الأكبر مجتمع يعتبر فتيا ، وقد فرضت هذه المرحلة الكثير من الاهتمام بهذه الفئة التي سوف تشكل مستقبلا العمود الحقيقي لهذا الوطن ، ولذلك فإن بناء مفهومٍ للمواطنة من خلال تنفيذ دور للشباب السعودي أصبح مهمة المرحلة التي يقودها خادم الحرمين الشريفين اليوم عبر المشروعات التنموية والفكرية التي يجب أن تحظى بمقومات تنظيمية وقيادات قادرة على ترجمة الاستراتيجيات السياسية لهذه الفئات إلى واقع يمكن مشاهدته. المجتمع السعودي اليوم يفخر بكل إنجازاته ويتطلع إلى مزيد من الانجازات فالعالم اليوم يعيش سباق التحولات الحضارية ودفع المعرفة البشرية نحو تحقيق تطلعات الشعوب ، والشباب السعودي الذي ينتشر اليوم في كثير من دول العالم سوف يعود إلى هذا الوطن متطلعا إلى تحقيق الكثير والكثير من طموحاته، وهذا ما يهدف إليه خادم الحرمين حفظه الله من هذه النهضة التي تخص الشباب وتخص تحضير بنيتهم التحتية بكل عناصرها استعدادا لاستقبال هذا الجيل الذي يجب أن نعدو بنفس سرعته الفكرية والثقافية وليس اقل. إن التفكير بالوطن ومكتسباته عملية يجب أن يُعتمد فيها على الشباب وقود الوطن وساعده القوي عبر تفعيل مؤسسات الدولة للتعاطي بشكل ايجابي مع هذه الفئات . إن عودة خادم الحرمين الشريفين إلى ارض الوطن مناسبة أكثر من سياسية فقط فخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله حفظه الله يعتبره كل فرد في الشعب السعودي أباً له، ولنا أن نتصور كيف يضع الأبناء آمالهم وطموحاتهم في آبائهم الذين يحبونهم ، فليحفظ الله لنا قائدنا وليحفظ لنا وطننا بكل خير ونماء.