عند الحديث عن المواطنة يجب التفريق بين مظاهر الاحتفال بالأيام الوطنية ، وبين دوافع هذا الاحتفال، مع الأهمية القصوى للذكرى بالأيام الوطنية سواء من خلال الاحتفالات أو غيرها من المظاهر الفكرية والإعلامية والتنظيمية. المساحة التي تملأ الفراغ بين مظاهر الاحتفال باليوم الوطني، ودوافعه هي مساحة مسكوت عنها في مسارنا الاجتماعي بينما تعمل المناصحة الإعلامية والفكرية في المجتمع على تكثيف دورها في هذه المساحة سنويا من اجل المواطن. الأممية هي أكبر خطر فكري أيديولوجي تم تعزيزه في المجتمعات الإسلامية خلال السنوات الماضية حيث يلغي مفهوم الأممية الحدود الجغرافية أو التاريخية أو الحضارية ، فالأممية مفهوم عدواني عندما ينزل من العقول إلى الأرض السؤال المهم الآن كيف يمكن تصور معايير المواطنة المطلوب غرسها لدى المواطن في مفهوم الدولة الحديثة..؟ هذا السؤال ليس من السهل الإجابة عنه بطريقة نظرية فهو بحاجة إلى دراسة علمية أتمنى أن يتاح لأحدٍ إجراؤها ولكن بشرط كبير يتمثل في الحاجة الماسة لاغتيال بيروقراطية إجراء الدراسات الاجتماعية واختفاء مفهوم حرمة إجراءات الدراسات الاجتماعية وسد باب الذرائع عبر منعها. محاولة الإجابة عن هذا السؤال لابد وأن تطرح قضية مفهوم (القيم) الخاصة بالمواطنة فالمواطنة ليست موضوعاً بل هي مفهوم أصيل يمتد بين الإنسان وأرضه التي يعيش عليها. المفهوم السائد حاليا للمواطنة مفهوم ليس بالعمق المطلوب للفهم والسبب في ذلك أن الوطن كمفردة لازال يحتاج إلى فهم لدى الكثيرين الذين تأثروا بمفاهيم سلبية سادت خلال السنوات والتاريخ حول الوطنية ومن ابرز تلك المصطلحات مصطلح (الأممية) وهو مصطلح أربك تعريف المواطنة والوطنية لسنوات كثيرة وخاصة مع نشوء الدولة الحديثة ذات الكيان المستقل جغرافياً وتاريخياً، لذلك تم التعبير عن المواطنة في المجتمع بطرق مختلفة فالسائد من التعبير عن المواطنة فكري نظري وليس حقوقيا تطبيقيا. المواطنة بحاجة إلى (منح قواعد للانتماء الوطني) كما أن هناك تناقضا شديدا في مفهوم المواطنة في العقل الاجتماعي تتجاذبه ثلاثة مقومات أساسية لازالت تشكل عقبة كبيرة في صياغته وهي (المواطنة عبر المسار الديني (التقليدية الأممية) ، المواطنة عبر المسار الجغرافي (حدود الدولة)، المواطنة عبر المسار التاريخي (توحيد المملكة). الأممية هي اكبر خطر فكري أيديولوجي تم تعزيزه في المجتمعات الإسلامية خلال السنوات الماضية حيث يلغي مفهوم الأممية الحدود الجغرافية أو التاريخية أو الحضارية ، فالأممية مفهوم عدواني عندما ينزل من العقول إلى الأرض فلذلك تسعى التفسيرات الدينية المعتدلة إلى جعله بعدا عاطفيا أكثر من كونه مشروعا استراتيجيا لأنه يصعب السيطرة على مفرداته عندما يكون أمراً واقعاً. وهذا ما عكسته المرحلة التاريخية التي عاشها العالم الإسلامي منذ بدايات القرن العشرين وحتى ظهور القاعدة التي تؤمن بالأممية إيمانا مطلقا لخلق الفوضى الفكرية وزعزعة مفاهيم الوطنية لدى الكثير من أتباعها عبر تأصيل الأممية كمفهوم عقدي تطبيقي وليس مفهوما عقديا عاطفيا نسبيا. الأممية كما هو معروف "تعبير ثقافي جماهيري" كما تشير الدراسات وليست تعبيرا وطنيا عن كيان اجتماعي أو سياسي وهذا هو سبب فشل الأممية كثقافة في الوصول إلى أهدافها وخاصة مع التحولات السياسية التي شهدها العالم خلال القرنين الماضيين وظهور بُعد حضاري جديد في مفهوم الدول والمواطنة، فلذلك يمكن القول إن الوطنية الجغرافية والسياسية والاجتماعية والثقافية هي نقيض عملي للاميةّ الجماهيرية فالأمة دائما ليس لها حدود جغرافية لكونها تتوسع باستمرار عبر معتنقين جدد لفكرها أو عقيدتها بينما الوطن كيان يسهل الشعور بمكوناته التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية. تطوير المواطنة يعتمد على حجم وجودها وكيفيته في المجتمع فالمواطنة يجب أن تعاد من تعريفاتها التقليدية إلى تعريفاتها العملية، المواطنة ليست احتفالًا كما يحدث في مظاهر اليوم الوطني فقط. المواطنة صيغة مشتركة متجددة لقراءة المجتمع والتقارب معه، كما أنها ليست عملية مناصحة إعلامية ، ومع كل ذلك يجب أن لا يكون ذلك مدعاة إلى انتقاد مظاهر المواطنة القائمة حاليا والتي تعبر عن رغبة حقيقية في الانتماء. المواطنة فرصة لكل مواطن لكي يثبت نسبه الوطني إلى أرضه بعدما غرق كثيرا في البحث عن نسب فكري أو اجتماعي فالانتساب إلى الوطن متاح لكل مواطن عاش على أرضه وشرب من مائه لا ينافسه احد في بعد تاريخي أو بعد اجتماعي أو بعد فكري، فالوطن هو الخط الوحيد الذي يتساوى فيه الجميع ويؤمن به الجميع ولا فرق بينهم إلا بالتقوى الوطنية التي تُصنع دوريا مع كل جيل جديد من أبناء الوطن. والمناصحة الإعلامية بالوطن سوف تكرس بل وتهيج العواطف لو تركت وحدها وقد تكون آثارها غير المرغوبة أكثر من ايجابياتها فالمجتمع الاحتفالي كمجتمعنا سوف يتفاعل مع المناصحة الإعلامية التي تقدَّم له عبر أجهزة الإعلام وهذا أمر محمود ولكن يجب أن يتم بضوابط وليس القصد هنا ضوابط للحد من مشاركة الشباب او الشابات او عموم المواطنين بالاحتفال باليوم الوطني ولكن المقصود ضوابط إستراتيجية تجعل من عملية الاحتفال مظهرا واحدا من مظاهر الوطنية وليس كلها. الدولة الحديثة كما في المملكة العربية السعودية تسعى إلى إقامة مشروع وطني يتم من خلاله بناء الإنسان السعودي بطريقة تتماشى مع القيم السياسية والاجتماعية ولذلك نجد أن مشروع الابتعاث على سبيل المثال يشكل إعادة تشكيل حقيقية في البنية الاجتماعية والفكرية لمجموع الطالبات والطلاب الدارسين في خارج المملكة ، كما أن التطوير والإصلاح والإنجاز تعبر عن مرحلة انتقالية نحو الدولة الحديثة بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. فالمجتمع السعودي قادر على السير نحو الحداثة بسرعة كبيرة والسبب في ذلك انه يعتمد على نسبة عالية من الشابات والشباب في تركيبته السكانية وهذا ما يجعله أكثر قوة في عملية الحراك الاجتماعي باستخدام قوة الشباب من الجنسين. التقدم السريع الذي تحققه المملكة في مسار الحداثة الاجتماعية لابد وأن يكون مرتبطا بمشروع سوسيولوجي مكتمل لتقديم الصورة المناسبة للمملكة في العالم، فالسعودية بلد تحتضن الحرمين الشريفين وهي دولة إسلامية حقيقية من حيث المنهج ومن حيث التطبيق ولذلك ليس هناك مسؤولية اكبر من كونها الدولة التي يجب أن تقدم الإسلام للعالم باعتبارها ممثلا حقيقيا للتطبيقات الإسلامية على اعتبار أن الحرمين الشريفين جزء من كيانها الوطني وتقوم فعليا على تقديم الخدمات المتواصلة للمسلمين عبر رعاية شاملة للحرمين الشريفين. كل هذه المقومات الوطنية والقيمة الدولية لبلد مثل المملكة العربية السعودية تجعلها ذات ثراء وطني يحقق لها مقومات الدولة الحديثة والتي تتطلب تقديم المشروع السياسي والاجتماعي السعودي للعالم بطريقة فكرية وإستراتيجية شاملة تطرح أسئلة حقيقية وتجيب عنها بطريقة ماهرة بعيدا عن المناصحة الإعلامية التي تجد نفسها وحيدة في المناسبات الوطنية، فاليوم الوطني مشروع سياسي واجتماعي وهو مناسبة لتحقيق المزيد من الركض نحو الدولة الحديثة ، وقد نسمع في السنوات القادمة أن يكون يوم الوطن مناسبة لإعلان المشاريع والتوجهات الإصلاحية والتطويرية والقفز نحو التحديث ، كما هو مناسبة للاحتفال والفرح نمارسهما سنويا. الدولة الحديثة هي دولة تتجاوز الفردية في تشكيل الرأي الاجتماعي والفكري وتطرح استفسارا محددا حول أفضل الطرق وأنسبها وأقصرها للعبور نحو العالمية عبر دولة حديثة ولذلك فإن متطلبات القيم الوطنية الحديثة تفرض التقوى الوطنية وليس الشعائر الفكرية التي يمكن أن تطرحها أيديولوجيا متشددة.. لقد حان الوقت للمجتمع لتجاوز كل مظاهر التبعية الفكرية والتركيز على تبعيةٍ للوطن وتحديثه دون الالتفات إلى الوراء مهما كان هذا الالتفات فكريا أو تاريخيا أو تراثيا لأن الوطن لديه أساسات متفق عليها ولدت معه ولم تُستحدث وهي كافية للانطلاق من خلالها..