الاحتفالات العربية بتنحي الرئيس حسني مبارك التي امتدت من الخليج إلى المحيط واعتبار ذلك هو النصر المؤزر تضعنا أمام أكثر من علامة استفهام وتسفه من أحلام القائمين على الثورة. أحدهم يصرخ من عاصمة عربية ليعلن استعادة ثروات الأمة، ومذيع من عاصمة أخرى يبشر بتصدير الثورة، بينما أعلن آخرون سقوط كامب ديفيد، فجاء الناطق باسم الجيش ليؤكد احترام مصر للمعاهدات التي التزمت بها. احتفالات بعض العربان ذكرتني باحتفالاتهم عشية اجتياح صدام حسين للكويت؛ فهم يبحثون عن ثورة لإرهاق حناجرهم بالهتاف وأكفهم بالتصفيق قبل أن يحمل أحدهم رغيف عيشه ويعود إلى مخدعه منهكا. العقلاء من المصريين ينظرون للغد بالكثير من القلق ذلك أن التحديات مركبة وهي داخلية أكثر منها خارجية. فغالبية الشعب المصري يكافحون من أجل لقمة العيش بعيدا عن الشعارات الرومانسية الحالمة، ونأمل أن يوفق القادمون الجدد إلى السلطة في تحسين وضع مصر فصبر الناس لن يكون طويلا وإذا اضطر المصريون إلى النزول إلى الشارع أمام كل نازلة فإننا بذلك سنشهد حكومة مصرية جديدة ربما عدة مرات في السنة؛ وبذلك تفقد مصر استقرارها السياسي اللازم للتنمية وجذب الاستثمارات الأجنبية. حديث مبكر جدا عن التحرر من التبعية وعن معاهدة السلام خصوصا بعد خطاب باراك أوباما عن الثورة وعن أسطورة ما حققه المصريون. ومصر تحتاج إلى علاقاتها الإستراتيجية مع الولاياتالمتحدةالأمريكية خصوصا وأن أمريكا لعبت دورا كبيرا في خذلان النظام السابق، ولذلك فإنه ليس من السهولة أن تتنكب مصر لعلاقاتها، والشباب المصري من الذكاء بحيث إنه لن يوجه الثورة للإخلال بالتوازنات الدولية ومصالح الدول الكبرى، فالحكم ليس بالأمنيات ولكنه وفقا لقوانين القوة في مجالاتها المختلفة فمن لايملك قوت يومه عليه أن يكون واقعيا في رسم طموحاته وأحلامه السياسية.. لقد أسقط النظام المصري عشرة بالمئة من الشعب أعلنت احتجاجها بصخب، وتسعين بالمئة دفنت مواقفها في غياهب الصمت، وحلفاء دوليون كانوا أول من ألح على النظام بالتنحي فقد انتهى دوره بالنسبة لهم لأنهم لايريدون حليفا يتخلى عنه الشعب؛ ففضل الأمريكيون أن يسبقوا النظام بخطوة نحو المستقبل ليعلنوا أنهم مع الشعب ضد الحليف الأقوى والأكثر وفاء كما فعلوا تماما مع شاه إيران. مصر المستقبل أمامها خياران لاثالث لهما المحافظة على دورها الكبير في العالم االعربي المعروفة به, وإما أن تدخل البلاد في أتون قلاقل ودوائر أزمات تشغلها عن التفكير فيما سواها وهذا مالانتمناه . سيكون هناك فسحة من الوقت لامتصاص ثورة الجماهير واستيعاب شعاراتهم وبعد ذلك ستبدأ مواجهة الحقائق التي لاتقبل الكثير من الشعارات ولا تتعامل مع النظريات. ما كتبته ليس اغتيالا لمشاعر المصريين الذين قاموا بالثورة ولكنه قراءة في مآلات الأمور حتى لا يرتفع سقف التوقعات، وتكون الصدمة كبيرة عند مواجهة الواقع. أتمنى أن يتوجه المصريون الذين قاموا بالثورة إلى الإنتاج والعمل المتقن وانتشال بلادهم من واقعها المرير إلى المستوى الذي يحقق للمواطن المصري درجة معقولة من العيش الكريم. ذلك لن يتحقق بالشعارات ولن تحققه نشوة الثورة، ولن يحققه التغني بما أنجز، وإنما يتحقق بالعمل بعيدا عن الخطب الرنانة والعناوين الساخنة، ونحن نريد هذه القيمة أن تكون نتيجة للثورة ، أما الشعارات فإنها بكل أسف لا تحقق نصراً على الفقر ولا تنقلنا درجة في سلم الدول المتقدمة. النظام والشعب المصري أدارا الأزمة بشكل حضاري حتى وصل الأمر إلى منتهاه بأقل الخسائر، وها بذلك يقدمان العرب إلى العالم بمفهوم مختلف ومتحضر، فهل سيحافظان على هذا التميز بالتحول إلى الكثير من العمل والقليل من الشعارات؟