الحكمة كهبة ربانية غالباً ما تطل برأسها كمصدر إلهام في الظروف الاستثنائية واللحظات العصيبة وفي الأحوال الخطيرة، لتفرض وجودها على ما دونها من مواقف وخيارات وحسابات مغلوطة وخاطئة، يلتف حولها المجتمع ويتسلح بها لمواجهة كل التحديات.. ويجعل منها طوق نجاة للخروج من دوامات الخطر والعبور به إلى مرافئ الأمان. تجلت الحكمة اليمانية المعهودة في أسطع صورها بالمبادرة التي أطلقها فخامة الرئيس علي عبدالله صالح الأربعاء قبل الماضي أمام الاجتماع المشترك لمجلسيْ الشورى والنواب، وتجسدت فيها ومن خلالها الحنكة القيادية التي تستشعر مسؤوليتها الوطنية والتاريخية عن حاضر ومصير وطنها وأمنه ووحدته وسلامه الاجتماعي، وتجنيبه مخاطر الاستهدافات الخارجية والعواقب الوخيمة للخلافات الحزبية بين أبنائه.. وقد جاءت المبادرة موجهة بدرجة رئيسة نحو إيقاف مسلسل الصراعات والتمزقات الحزبية السياسية التي ظلت على الدوام عوامل إضعاف لحصانة الوطن ووحدته الجغرافية والاجتماعية، وثغرات مفتوحة تتسلل منها الأجندة والمشاريع غير الوطنية الرامية إلى تحويل البلد لساحة مستباحة للطامعين والمتربصين شراً بها.. كما جاءت المبادرة في مضامينها وأهدافها لتعبر عن رؤية قيادية ناضجة في التعامل بعقلانية وواقعية وحكمة مع النزوات السياسية المتطرفة لبعض الأحزاب ومع معطيات الواقع الوطني المعاصر وتفاعلاته وتطوراته وتحدياته على مختلف الأصعدة، مستلهمة إرهاصات اللحظة التاريخية وأحداثها المتسارعة.. والماثلة أمامنا على الساحة العربية والإسلامية والدولية بكل مدخلاتها ومخرجاتها واحتمالات تبعاتها وتداعياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.. والتعاطي معها برؤية شفافة صادقة وبمنهج عملي إبداعي خلاق يضمن استثمارها وتوظيفها والتفاعل الإيجابي معها من منظور الحسابات والمكاسب والمصالح الوطنية العليا حاضراً ومستقبلاً. لقد عكست هذه المبادرة قوة الإرادة والإصرار على المضي قدماً في الإصلاحات والتغييرات التي تضمنها برنامج الرئيس الانتخابي إلى غايتها النهائية في تحقيق مطالب المجتمع وتلبية احتياجاته بوسائل سلمية ديمقراطية مشروعة أساسها حقيقة إيمانية مطلقة والتزام مبدئي راسخ بقضية الحوار الوطني كخيار تاريخي، وآلية وطنية حيوية ومهمة لا بديل عنها أمام اليمنيين في مثل هذه الظروف والمنعطف التاريخي المهم، لاستنهاض وتحريض الوعي والفعل الوطني ولتوحيد وحشد الطاقات والإمكانات الوطنية للسلطة والمعارضة في مواجهة كل التحديات والمخاطر.. والمشاركة في عملية الإصلاحات وحماية التجربة الديمقراطية وتطوير أدائها ووظائفها وخلق الضمانات لاستمرار نهجها السلمي في الاتجاه والمسار الصحيحين بما يضمن حصانتها ضد الاستثمار السياسي الخاطئ وضد مظاهر الانزلاقات والانحرافات نحو الفوضوية والتخريب التي باتت تهددها وتهدد الوطن والعملية التنموية برمتها.. لقد دشنت هذه المبادرة البداية العملية لمرحلة جديدة من العمل الوطني المشترك لتخرجه من حالة الجمود الفكري المتعصب والانسداد السياسي وتجاوز مرحلة الصراع والاحتراب السياسي الحزبي، الفكري، الإعلامي الذي صبغ الحياة السياسية لأكثر من أربعة أعوام خلت ظلت خلالها الأحزاب متمترسة وراء المصالح والمواقف العدائية تخوض حربها البينية ضد الوطن.. وأهمية المبادرة أنها جعلت من مطالب واشتراطات أحزاب اللقاء المشترك أساساً ومنطلقاً لمحاور وقضايا الحوار الذي دعا إليه فخامة الرئيس وقدم في ذلك تنازلات رآها ضرورية للانتصار لقضايا الوطن ومصالحه العليا وثوابته، وفي الوقت ذاته تهيئة الأرضية والمسالك أمام كافة الأطراف للوصول إلى حالة من الوفاق السياسي تضع المصالح الوطنية العليا للوطن والشعب فوق مصالح كل الأحزاب. المبادرة تقوم على مبدأ الحوار كحقيقة واقعية ونهج عملي متأصل في الأعراف الوطنية وفي الوعي الاجتماعي والثقافي والسياسي للشعب؛ فرضته حركة التاريخ وتحتمه اليوم احتياجات الواقع، باعتبار أن الحوار ليس ترفاً سياسياً أو فكرياً بقدر ما هو نهج واقعي ترسخ وتجذر في وجدان المجتمع اليمني وعقله الباطن، ولا يمكنه أن يتوقف أو يضمحل أو يتبدد وفق حاجة أو إرادة البعض أو بفعل أزمة سياسية عابرة مهما كانت خطورتها؛ لأن أي محاولة في التنصل أو في رفض مبادرة الحوار هي أقرب ما تكون في مثل هذه الظروف إلى المغامرة والمقامرة بمصير الوطن ومستقبله. المرحلة لا تتحمل أي شكل من أشكال المماطلة والتسويف، ولا تستوعب المزيد من المناورات السياسية وابتداع مطالب واشتراطات جديدة للحوار لتشتيت الجهد وإضاعة الوقت واستثماره لإحداث اختلالات أمنية ومعطيات جديدة على الأرض تخدم مصالح البعض، وهذا يقتضي بالضرورة أن تستوعب أحزاب اللقاء المشترك أهمية اللحظة التاريخية ومخاطرها، وأن لا تفهم بأن التنازلات المقدمة في سبيل إنجاح الحوار على أنها انتصارات حزبية تحفزها على التمادي في مشاريع غوغائية تخريبية.. فالتنازلات هي أولاً وأخيراً لصالح الوطن وهي مطلوبة من كافة الأطراف كحاجة وطنية استراتيجية وملحة تفرضها اليوم قوانين الضرورة في مجال الحياة السياسية وتحتمها تحديات ومخاطر سياسية وأمنية واجتماعية كبيرة تتطلب من الجميع القبول بالحوار في أي صيغة وطنية وحدوية تخدم مصالح الشعب وأمنه واستقراره.. إن المصلحة الوطنية تفرض على أحزاب اللقاء المشترك أن لا تظل أسيرة حساباتها ومصالحها الذاتية إلى ما لا نهاية، وأن لا تنفصل في وجودها ومصيرها عن واقعها الاجتماعي والسياسي أو تتهرب من واجباتها ومسؤولياتها، وأن تستوعب حقائق الواقع وخصوصياته وأبعاد المرحلة ومخاطرها وتحدياتها ومتطلباتها، والإدراك بأن الأزمات والخلافات السياسية لن تستطيع مهما بلغت شدتها أن تبدد أمنيات الشعب وآماله وطموحاته بالخروج من مستنقع الأزمات. مع الأسف فإن ردود فعل ومستوى استجابة أحزاب اللقاء المشترك للمبادرة التاريخية التي أطلقها فخامة الرئيس لا زالت دون المستوى المأمول الذي تحتمه عليها مسؤولياتها وواجباتها الوطنية. ربما أن ردود الفعل السلبية من الدعوة إلى الحوار وغياب رؤية وموقف واضحين حتى الآن مرده إلى الاختلاف والتباين الفكري لأحزاب اللقاء المشترك المتأرجحة قناعاتها وحساباتها ومواقفها وبرامجها، هذا التباين أفضى إلى اختلاف كبير في طبيعة ونوعية المطالب النخبوية من الإصلاح السياسي المرجو وفي مستوى استجابتها لدعوات الحوار. الجميع يأمل أن تتعاطى أحزاب اللقاء المشترك مع هذه الدعوة التي تمثل رؤية إنقاذية للوطن من مصير مجهول ينتظره، وعدم الانجرار وراء الدعوات المتشددة والمتطرفة التي يحاول البعض فرضها على أحزاب اللقاء المشترك من خلال ما يمتلكه من إمكانات مالية ضخمة، ويحاول اليوم جني وحصاد ما سبق له أن غرسه في الواقع من بذور فتن وتمردات وتصدعات اجتماعية وأزمات سياسية وترجمتها إلى مشاريع واقعية تحقق أهدافها في استلاب ومصادرة مقدرات الوطن وتدمير حاضره ومستقبل أجياله.