قرأت ما نشر في صفحة «تاريخ وحضارة» من جريدة «الرياض» العدد رقم 15565 الصادر يوم الجمعة غرة ربيع الأول 1432ه بعنوان (تحديد ماء الرداع وواديه وذات الرئال) بقلم الأستاذ «عبدالله بن عبدالرحمن الضراب». وقد امتعضت كثيراً عندما قرأت ما ورد فيه. وسبب امتعاضي ليس لأن الأخ الضراب انتقد تحقيقي لأمكنة وردت في أحد كتبي فالنقد ظاهرة صحية إذا كان الناقد بصيراً متأكداً من صحة ما يقول. ولكن امتعاضي من قلة المهتمين بتحقيق أماكننا التاريخية والجغرافية من ذوي الاختصاص. ويبدو لي أنه بعد رحيل علاّمة الجزيرة شيخنا «حمد الجاسر» - رحمه الله - وبعض الرعيل الأول الذين كانوا معه وهم من أتحفونا ب«المعجم الجغرافي للبلاد السعودية» وكذا ما ألفوه من كتب أخرى في هذا المجال أصبح هذا الميدان شبه خال؛ الأمر الذي أتاح المجال لمن قلت معرفته بخفايا هذا العلم ممن ينقل ما كتبه الآخرون من نصوص فيحرفها عن مواضعها فيقع في الخطأ من حيث لا يشعر، وأنا متخوف من أن يصدق علينا قول الشاعر «طرفة» حينما كان يصطاد طيور «القنابر» في صباه، حيث قال: يا لك من قُبرة بمعمر خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري قد ذهب الصياد عنك فأبشري ويقال بأن هذا الرجز لغير «طرفة». وقبل أن أناقش ما جاء في هذا المقال الذي سماه كاتبه تحريراً أو تحقيقاً وهو بالأصح تلفيق؛ أحب أن ألفت نظر القارئ الكريم أن هذا المقال المنشور في جريدة «الرياض» هو «الجزء الثاني» من مقال نشر جزؤه الأول في جريدة «الجزيرة» العدد 13954 الصادر بتاريخ 6 محرم 1432ه بعنوان: (تحرير المقال في ماءة الجرباء والرداع وواديه وذات الرئال). وكنت بانتظار هذا الجزء الثاني في جريدة «الجزيرة» ولكني فوجئت بنشره في جريدة «الرياض» ويبدو لي أن صاحبنا تباطأ نشر الجزء الثاني من مقاله - كما ذكر - فسارع باتحافنا به في جريدة «الرياض» وإن اختلف وعاء النشر فالنتيجة أن هذا الجزء الثاني وصل إلينا. أما بشأن ردي على ما ورد في الجزء الأول وهو تحقيقه لماءة «الجرباء» فقد بعثت به إلى جريدة «الجزيرة» في حينه؛ ومما قلته في معرض ردي هناك على ما تجرأ به كاتب المقال من نقد لشيخنا «حمد الجاسر» في تحقيقه ل«قارات الحُبل» وكذا تحقيقي لماءة «الجرباء» ما نصه: (يعلم الله سبحانه وتعالى لو أن هذا الناقد كان موفقاً في تحقيقه ل»الجرباء» التي هي أحد موارد الطريق التجاري من حجر اليمامة إلى البصرة الذي حققت مساره في كتابي المار ذكره لشكرته من أعماق قلبي؛ لأن الهدف من تحقيقي لمسارات طرق الحج والتجارة هو الوصول إلى معرفة جوار تلك الطرق وما عليها من أماكن تاريخية وجغرافية عامرة أو غامرة. ورحم الله من أهدى إلينا عيوبنا. ولكن ان يتجرأ وينشر تخرصاته البعيدة عن الصواب في وعاء إعلامي يقرأه الجميع مثل جريدة «الجزيرة» فهذا مما لا يحسن السكوت عنه؛ خاصة وأن فيما قاله وسماه تحقيقاً إقصاء لأقوال المتقدمين والمتأخرين على حد سواء). احددى آبار الرداع وبما أن ردي عليه هناك مستفيضاً فسيكون ردي على ما نشره هنا في جريدة «الرياض» وهو عن ماء «الرداع» وواديه وروضة ذات الرئال رداً مختصراً؛ لأن صاحبنا يغني بدون قصيدة. فأقول: استهل الكاتب هذا الجزء من مقاله بقول ياقوت الحموي ناقصاً، كما أورد قول صاحب كتاب «بلاد العرب» ناقصاً أيضاً، وما ذاك إلا لأنه يستبعد ما يثبت أنه يعتسف النصوص الواردة؛ فقد أورد قول صاحب كتاب «بلاد العرب» هكذا: (وعلى يسار الجرباء في العرمة يقال له الرداع لبني الأعرج من بني سعد). ثم علق على هذا بقوله: «هذا هو الرداع وقد حدد موقعه صاحب كتاب بلاد العرب بأنه يسار الجرباء، وهي مصانع في هدامة شرق الجنادرية». إن عبارة «وهي مصانع في هدامة شرق الجنادرية» ليست من قول صاحب كتاب بلاد العرب، وإنما من قوله هو، وقد هدمت ما أحدثه من مصانع على ظهر هدامة في ردي على الجزء الأول؛ حيث كان عنوان الرد (هدم مصانع هدامة) ومن أين لهدامة مصانع تردها القوافل إلا في نظرته الخاطئة فهي خالية من المصانع، وكلما فيها من مياه ما تخلفه السيول من غُدر مثل «غدير الحصان» أما ما ظنه مصنعة فهي عبارة عن حفرة نتجت من انهيار الصخور عندما لانت التربة تحتها، وهذه الحفرة لا يجتمع فيها الماء وإنما تسربه إلى بطن المنخفض حولها، انظر إلى شكل مصنعته الصورة رقم (1) وهي واقعة على درجة العرض 19ًًِِ 56َ 24ْ وخط الطول 34ً 51َ 46ْ على بعد 30 كم غرباً من جبال «العرمة». وصاحبنا لا يعرف ما هي «المصانع» ولا يفرق بينها وبين الدُّحول، وقد اتضح لي جهله المطبق في المصانع وعدم التفريق بينها وبين دحول الصَّمان كما هو وارد في الجزء الأول من مقاله المنشور في جريدة «الجزيرة». وقد أوضحت ما وقع فيه من وهم في ردي عليه هناك بما يغني عن الإطالة هنا. وهدامة خالية من المصانع والدحول والخلائق. وآبار «الرداع» (الحفاير حالياً) و«الجرباء» (اللبجة الآن) واقعتان في العرمة كما هو واضح من النصوص الواردة، ومياه العرمة من مياه بني تميم، وما درى صاحبنا أنه عندما وصل «هدامة» لم يبرح بعد ديار بني حنيفة فرياض الجنادرية من مزارعهم. وحتى نؤكد أن الكاتب - هداه الله - تعمد إيهام القارئ بصحة ما يقول باقتطاعه من قول صاحب كتاب «بلاد العرب» ما يخدم ما توصل إليه. وحتى أثبت أن «الجرباء واقعة» في «العرمة» وليس في «هدامة» أسوق فيما يلي ما اقتطعه الكاتب من النص وهو: (ثم تنهض من ثنية الجرداء فتصير في قاع يقال له الرَّاح فإذا جزته وقعت في العرمة فتمر في واد خرج بين صدي جبل، والخرج الخشن كثير الوعور حتى تنتهي إلى ماءة لبني سعد يقال لها الجرباء، وعلى يسار الجرباء في العرمة ماء يقال له الرِّداع لبني الأعرج من بني سعد). انتهى قول صاحب كتاب «بلاد العرب». أقول: ثنية الجرداء: هي الطريق الذي يعتلي مرتفع «هدامة» والجرداء: هي الروضة الجنوبية من رياض السُّلي (الجنادرية حالياً) وهذا المرتفع يبعد عن العرمة غرباً 30كم كما أسلفت. ولا يشك أحد في وجود الرداع والجرباء في جبال العرمة كما هو وارد في النصوص. وإذا أراد أحد أن ينقل آبار «الجرباء» إلى «هدامة» فإن عليه أن ينقل جبل هدامة إلى جبال العرمة حتى تنطبق معه النصوص. فهل يستطيع أحد هذا؟! وقد حققت ماء الرداع وماء الجرباء ونشر التحقيق في مجلة «مُحكمة هي مجلة «الدارة» ثم أدرجته بعد ذلك في كتابي الخاص بتحقيق هذا الطريق. وماء الرداع هذا هو الذي ذكره «عنترة بن شداد العبسي» في معلقته حيث قال: ما قيل انه مصنعة في هدامة شربت بماء الدُّحرضين فأصبحت زوراء تنفر عن حياض الدَّيلم بركت على ماء الرداع كأنما بركت على قصب أجشن مهضم يقع ماء الرداع، وهو عدد من الآبار المطوية بالحجارة المهذبة على درجة العرض 20ً 11َ 25ْ وخط الطول 30ً 05َ 047 انظر إلى الصورتين رقم 2 ورقم 3، أما ماء «الجرباء» وهي شبيهة بآبار الرداع فواقعة على درجة العرض 50ً 10َ 25ْ وخط الطول 55ً 00َ 47ْ وانظر إلى الخريطة رقم (1) في كتابي المار ذكره. ثم نصل إلى ضربة من ضربات الضراب التي آلم بها جرباءنا المسكينة حينما حولها إلى ماء «الرِّداع» وأن واديها المسمى حالياً وادي اللبجة هو وادي الرداع الذي يدفع في روضة «ذات الرئال» مستشهداً بقول صاحب كتاب «بلاد العرب» حيث قال: (فإذا فصلت من العرمة من حيال الجرباء صرت إلى واد يقال له مجمع الأودية أهله سعد ثم تصير إلى روضة ذات الرئال..). أقول: لو أمعن كاتبنا - سلمه الله - بمنطوق هذا النص لعرف أن الجرباء في العرمة وليست في هدامة؛ فقوله: «فإذا فصلت من العرمة من جبال الجرباء» يدل دلالة واضحة على أن الجرباء في وسط العرمة وليست فوق جبل هدامة الذي خلفته القافلة وراء الظهر بمسافة تزيد عن 30كم في بلاد بني حنيفة وليس في بلاد بني سعد. وبما أن صاحبنا لعبت به بُنيات الطريق -هذا إذا كان سلك الطريق- فقد كثرت أخطاؤه وسقطاته. فوادي اللبجة الذي اعتبره وادي الرداع لا يدفع في روضة كما قال وإنما يدفع في متسع بين مرتفعات جبلية سماه صاحب كتاب «بلاد العرب» مجمع الأودية؛ لأن هذا المكان يجتمع فيه عدد من الأودية موضحة في كتابي، وبهذا يكون وادي اللبجة فقد مسماه؛ إلا أن صاحبنا رشح هذا المكان على أنه «روضة ذات الرئال» وحتى لا يأتي من يقول: إن هذا المكان ليس بروضة دعمه بقوله: (إن الذي ينطبق عليه ما أسلفنا هو الرياض والمنطقة الواقعة من وادي مجمع الأودية «وادي الغيلانة» وإلى الشمال من ذلك مروراً بروضة أم الحجول وروضة آل شامر حتى الوصول إلى حفر بني سعد والتي ليست هي المزيرع فالمزيرع الآن ليست في طريق المتجه للبصرة وعليكم الباقي). انتهى قوله ب«وعليكم الباقي». سبحانك ربي؛ أبمثل هذا الخلط العجيب تحقق أماكننا التاريخية والجغرافية؟ وليعذرني القارئ إذا كنت لم أناقش بعض الفقرات الواردة في المقال أو ما وقع فيه من أخطاء لغوية؛ فقد وعدت باختصار هذا المقال. وكلما أرجوه ألا يخلو الجو من الباحثين المتمكنين حتى لا يترك لمثل قبرة «طرفة بن العبد» فما زالت جزيرتنا العربية بكراً من حيث البحث الميداني الجاد. وفق الله الجميع للصواب.