تلمس في سلوكه بعض الحدة، وبعض التوتر، وتلمح في ملامحه الكثير من الإجهاد وانعدام التركيز، وعندما تسأله يجيب بأنه لم ينم النوم الكافي، وأنه حاول كثيراً أن يستسلم للنوم، ليستيقظ هادئاً، وقادراً على التفاعل بشكل جيد، لكن لم يصل إلى مرحلة النوم العميق، أو المفترض، ربما يكون مرهقاً في الأصل رغم أن الإرهاق لدى البعض يدفع إلى النوم الطويل والصحي، وربما يكون مشغول التفكير، وبالتالي عجز عن النوم الجيد، لكن يجيبك بأنه لا هذا ولا ذاك فقط يعاني من قلة النوم المتواصل، ومن عدم القدرة على النوم لساعات كافية رغم كل محاولاته الجادة للوصول إلى ما يدفع إلى النوم خاصة وهو يرى من حوله ينامون بالساعات الطويلة! حاول استخدام أدوية مهدئة، بل إنه كلما سافر إلى دولة تحايل على الصيادلة وبالذات في الدول العربية للحصول على منوم لكن يتوهم أنه نام ثم يعود إلى حاله ويترك الحبوب، بل قد يوزعها على الأصدقاء والأقارب ممن يعانون من قلة النوم! وأنت تستمع إليه تكتشف أن هذه صورة من صور الحياة الحالية ، وجه من الوجوه المتعددة لها رغم رغبة كل منا لأنْ يحياها بشكل أفضل، رغم رغبة كل منا لأنْ يعيشها بهدوء، وتوازن، وتصحيح للأخطاء، لكن تظل الحياة الآنية تدفع إلى القلق والتوتر، والاضطراب، ومحاكاة الأشياء المريرة. ماذا بها ليدفع الإنسان إلى المتعة؟ ماذا عليه أن يورّث من حوله ليفتح لهم آفاقاً أفضل وأرحب؟ يتعطش الإنسان للحياة الهادئة التي لا تدفع إلى الخلف، ولا تحمل من يسير على المضمار بعيداً خارجه، لكن يجد نفسه مدفوعاً تحت اقدام غيره رغم انه كان يمشي في مضماره، ويتحرك دون مضايقة لأحد، يجد نفسه يتغذى بتفاهة من لا يعرفهم ، وسأترك من يعرفهم لأنهم قد أخذوا الكثير من أعصابه ودمه، ينصهر في لحظات ثقيلة وكئيبة لم يصر على التواجد داخلها، لكن الحياة فرضت عليه ذلك بكل جبروتها وقسوتها، يحاول أن يهرب، أن يبتعد لكن يظل ليس بإمكانه أن يخلق ظلاً خاصاً له يأوي إليه ويستكين داخله، بعيداً عن ظل الثقلاء، والمسكونين بملاحقة الآخرين، والشغف بسرقة هوياتهم، وذواتهم، والهطول عليهم كالأمطار الغريبة والتي تأتي دون وقتها! تمتلك رغبة قوية للحياة، فتخرج، تحاول البحث عن المتنفس بعيداً عن الجدران الأربعة تريد أن تستمتع وأنت تتحرك بالسيارة. دقائق وربما دقيقة واحدة وتشعر أن الزحام يخنقك، يُدخلك في دائرة تُحبس فيها وحيداً ومهموماً وباحثاً عن لحظة العودة إلى الجدران الأربعة، زحام الشارع، أو الشوارع في المدن الكبيرة أصبح يشكل تلك اللحظات الطويلة التي لن تجرؤ فيها على التنفس الطبيعي، لكن وأنت مخطوف داخل هذا الزحام ماذا ستفعل؟ سيزيد ضيقك، وتذمرك وأنت تشاهد من يحاول التجاوز والهروب، ومن يحاول أن يشتم من قبله لأن الإشارة عادت إلى احمرارها وهو يتلكأ، ستفزع عندما يصرخ أحدهم ويتبادل الشتائم مع غيره في سرب الانتظار الطويل، سينتهي أملك في الوصول إلى حلم اللحظة الهادئة، وأنت تتوجع من صوت أبواق السيارات التي انطلقت فجأة، وستختلط عليك كل الألوان عندما تحاول رصد الطريق أمامك، وتكتشف أن المشوار الذي كان ينبغي أن تصله في 10 دقائق سيستغرق أكثر من ساعة، وأكثر من إحساس بالتعب. لكن ماذا عليك أن تفعل؟ هل تفتح الباب كالمجنون وتترك السيارة وتغادر؟ هل تلتزم بعجزك المطلق، وتتلاشى تماماً داخل نفسك مكتفياً بالمرارة؟ هل يقتضي المشهد كغيره من مشاهد الحياة اليومية أن تصمت وأن لا تقول شيئاً؟ هل الصمت يفتح أمامك التفكير الصحيح بأن هذه صورة من صور الحياة التي تكرس دائماً بقاء المشهد أكثر ممّن صنعوه؟ تغادر الطريق ولكن لا تغادر العاصفة اليومية المحمومة التي تلاحقك، تغادر ولكن لا تغادر التعب الذي يسري داخل شرايينك، تغادر ولكن هناك الكثير ينتظرك من خطوط حرق الأعصاب، وغموض القادم! لم تعد الحياة سوى مشقة يومية ملوّنة بأوجاعها وإلا ما كثرت حالات الانتحار، وازداد التفكير بها لدى من يفقدون القدرة على الخروج من النفق المظلم.. لم تعد الحياة سهلة الفتح لحقائبها المغلقة بل إنها قد أضاعتها وحضرت بجوابها الصامت ولذلك تفيق مكتئباً وما أكثر المكتئبين الدائمين أو حتى الممارسين لاكتئاب اللحظة. هي الحياة بأيامها وصراع الإنسان معها، ومحاولته اجتذابها بأحلامه وركضه المتواصل على خطوطها، ولكن رغم محاولته التصرف فيها بما يريده إلا أن القرار دائماً لها، والتحرك محسوب بما ترسمه هي لمن يحل على أرضها، بل عليه أحياناً أن يكتفي بحساب ما يراه، ويتأمل ما يُضاء وما ينطفئ!