يواجه الشعراء مواقف محرجة لهم أو مزعجة لغيرهم، ولكنهم يستلهمون أثناءها إبداعاً ينقذهم من هذه المواقف أو يدخل السرور إلى قلوب من يعانون من تلك المواقف. ويظل هذا الابداع زمنا يتناقله الناس إعجاباً بسرعة بديهة الشاعر ودهائه ولباقته، ولا أدل على ذلك من قصة الشاعر أبي تمام الذي امتدح الخليفة بخلال فريدة تميزت بكل منها شخصية عربية من أبناء البادية مثل عمرو في الأقدام وحاتم في السماحة وأحنف في الحلم وإياس في الإباء حيث قال: إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في إباء إياس هذه الخلال الحميدة النادرة التي قل أن يتمتع بأحدها واحد وجدها الشاعر في هذا الخليفة؛ ولكن وكما قال ابن أبي ربيعة: وقديما كان في الناس الحسد، كان في مجلس الخليفة رجل حاقد لا يحب الشاعر، وكان يريد الاطاحة به فقال: "ما عسى أن وصفت الخليفة بالأجلاف" أو ما معناه، جازما بأنه أوقع بالشاعر وبلغ منه مبلغاً مؤلماً، وظل الشاعر مسترسلاً في إلقائه قائلاً: لا تنكروا ضربي له مَن دونه مثلاً شروداً في الندى والباس فالله قد ضرب الأقل لنوره مثلاً من المشكاة والنبراس جاء هذان البيتان رداً على الناقم، استلهمها الشاعر من الموقف المثار، حيث لم يوجدا في صحيفة قصيدته وإنما جاء ارتجالاً. مثل هذا الموقف تعرض له الشاعر بديوي الوقداني الذي كان يبدع الشعر في الفصحى واللغة الدارجة، فقد كان في مجلس أمير الطائف في العهد العثماني الشريف محمد بن عون الذي سقط خاتمه وانصدع فصه مما أزعج الأمير فبادره الوقداني مرتجلا: لا تخش يا ابن رسول الله من حجر رأى المكارم في كفيك فانفجرا وافاك سعدك إذ وافى السعود وقد أعطاك ربك سعداً يغلق الحجرا والأمراء كثيرا ما يمتحنون فطنة جلسائهم من الشعراء ليقينهم بأنهم يحسنون التخلص من المآزق بأدب جم أورد مقبول. ومن ذلك أن الوقداني هذا كان من المقربين لدى الحكام والأمراء دخل مجلس الشريف عبدالله بن عون أمير مدينة جدة في العهد العثماني فوجد عنده عدداً من القناصل، وهم من ممثلي السفارات الأوروبية ومندوبيها، فأدرك الأمير انكار الشاعر لوجودهم، وزيادة في ذلك طلب من الشاعر مصاحبتهم في جولة سياحية في الضواجي. وعند العودة قال أحد الاصدقاء للوقداني مازحاً: أراك تقنصلت يا بديوي، فقال: "القدم يتبع الرأس"، ونقل ذلك للأمير الذي ما زاره بديوي في اليوم التالي حتى سأله: ماذا قلت يا بديوي فأجاب: قالوا تقنصل ما تخاف الملامة؟ ما تستحي وانته قطير ابن عباس قلت العفو ما اغوى دروب الهداية الدرب واحد والقدم يتبع الراس وياكم اعلّم في التيوس الهجاية اللي يصاحب كلب للصيد لا باس فاستحسن الأمير إجابة الشاعر. فلقد كانت مصاحبة غير المسلمين حينها غير مستحبة، بل ومنتقدة بسبب اختلاف الدين، لذا أشار الشاعر إلى جوار مسجد ابن عباس رضي الله عنه، والقطير أو القصير هو الجار، والهجاية مبادئ التعليم. ومن المواقف المماثلة للشاعر سليمان الشريم الذي قدم من القصيم إلى مكةالمكرمة لأداء فريضة الحج على جمل توقف عن السير قرب محطة المويه بمنطقة ركبة، مما اضطر الشاعر إلى البقاء لعل صحة جمله تتحسن، ولكن الثلب بطئ التماثل للعلاج فخاف الشاعر من فوات مناسبة الحج، وإذا بركب سمو الأمير محمد بن عبدالعزيز رحمه الله يمر بالشاعر، فرأى أن يقابل الأمير ويطلب ضمه إلى ركب سموه، ولما كان الشاعر معروفاً ترفق الأمير في سؤاله استنهاضا لشعره فقال الشاعر: لا تخلّينى تراني مشلحي ونعالي طالت الهجرة عليّ وقلّت الخرجية كان مالي مركبٍ بالموتر الحمالي عدّنى في الجنب الاخر قربة مملية فاستحسف الأمير مقاله، وسافر الشاعر في ركب الأمير إلى مكة. ولقد بين في بيتيه هذين أن ليس معه من الأشياء حمل ثقيل، وأنه متعب الجسد لطول السفر وقلة ذات اليد، وهو راض بأي مكان في السيارة حتى ولو عد من المتاع، وما ذاك إلا تلطف الشعراء وترفقهم في الحديث. أما ابن فهاد القحطاني فهو شاعر كفيف البصر عاش في أوائل القرن الهجري الماضي وشهد المعاناة التي شملت كثيراً من البلدان بسبب الحروب العالمية وغيرها، فقد تلمس ذات ليلة الحصول على قوت ليلته، ولكنه عاد إلى منزله خائر القوى مدنف الفؤاد كغيره من سكان القرى، يردد: لا والله الاّ قلصن التفاليس الجيب خالي والعشا ما تهيّا لو الجدا روحي تركت الهواجيس مير البلا وان ما تعشّت هييَّا الافلاس كان مشكلة الشاعر والأدهى والأمر بيات زوجه "هيا" بدون عشاء. وقد صغرها للاشفاق والتمليح إلى "هييا" تصغير "هيا". وهذا التعبير يجسد روح الشاعر المرحة التي عرفت عنه، رغم الظروف القاسية التي تسوء معها النفوس وهو هنا في مأزق إنساني تخلص منه بهذا العزاء الجميل. وللشاعر أبيات كثيرة ومحاورات وردت في كتاب "شعراء من الوشم" للأديب سعود اليوسف، الذي قدم الشاعر بأن شعره يتميز بالفكاهة وخفة الظل. يقول في إحدى قصائده: يا الله على خمسين خبزة معيّه وقت العشا يوم الخمايم يشحون أقدع بهن والحلق تسمع دويّه مثل المدافع يوم تضرب ضحى الكون وسط الصحن تلقى مضارب يديّه مثل المساحي يوم قاموا يخلطون ومن أمانيه أيضاً: يا الله على ابريقٍ على النار مركيه أشرب منه خمسة وتسعين فنجال والى قضى طل اللقم قمت ادنيه طسل يصدر له ثلاثين رجال اكلت من وسطه وأنسف نواحية بالوصف كنه نسف طين على الجال توحي صريخ الحلق والبين حاديه بالوصف كنّه صرة ابكار محّال هذه أبيات إخوانية تنشأ للشرية عن النفس ساعة اجتماع الشركاء في الماسأة، في زمن انحسار الحلول، وانفساح الفراغ الممل. والأبيات واضحة المعنى، سهلة التناول.