ما أن قرر والد «بسام» الذي لم يتجاوز عمره -18 عاماً- أن يشتري له سيارة صغيرة، حتى استبشرت الأم وتعالت تصفيقات شقيقاته الثلاث، واللاتي أخذن يعددن الأماكن التي يرغبن بزيارتها والذهاب إليها. "سهام" قالت والفرح يغزو وجنتيها: "أخي الحبيب أكيد ستأخذني إلى صديقتي (هند) حينما أرغب بزيارتها، بدلاً أن أنتظر والدي الذي يعدني دائماً ثم يخلف وعده لانشغالاته"، وتحدثت "غيداء" مقاطعة شقيقتها: "بل سيأخذني كل يوم إلى المدرسة بدلاً من السائق (سراج) الذي يتوه في الطريق غالباً ولا يعرف كيف يتعامل مع زحمة الطريق"، أما "تماضر" وهي تبحلق في السقف وأصبعها السبابة في قبضة أسنانها، فتقول:"أعتقد أن مشكلة السوق في طريقها إلى الحل، وسنستطيع أن نذهب إليه متى احتجنا ذلك، ودون الحاجة لانتظار مواسم العيد والمناسبات"، في حين تبتسم الأم بحجابها الأبيض بعد أن فرغت من الصلاة لترفع يديها اليمنى وتلوح بها وتقول: "على مهلكم يابنات، خلو أبوكم يجيب السيارة لأخوكم، وإن شاء الله يصير خير"، ثم تلتفت إلى "بسام" بحنان ومحبة لتقول له: "شد حيلك ياولدي وتعلم السواقة حتى تنفعنا وتنفع نفسك"، ينهض "بسام" من فوق الأريكة ويستدير بظهره نحو باب الخروج وهو يلوح بيده بامتعاض شديد: "ماني فاضي لكم وطلباتكم، شوفوا لكم أحد غيري، السيارة لي وحدي وسأقضي بها مشاويري"، الأم بعد أن غابت عن وجهها الفرحة تُتَمتِم: "الله يهديك، دائماً مو فاضي، إحنا مين لنا غيرك!". «شباب ما عندهم وقت» لتلبية طلبات أسرهم.. مشغولون ب«الدوران» و«استراحة الشلة» و«جلسات الكوفي».. دائرة الاحتياج يمثل "بسام" نموذجاً لآلاف من الأبناء الذين لم يتربوا على المسؤولية منذ صغرهم، حيث أصبح الشباب دائماً وبدون أسباب حقيقية وواضحة "غير فاضي" ومشغول، فتقع الأسرة في دائرة الاحتياج لمن يقوم بمسؤولياتها، حتى يضطر البعض منهم إلى اللجوء إلى السائق في جميع متطلباتهم، وربما صعُب على البعض إيجاد السائق، فتضطر الأسرة إلى الاعتماد على النساء في توفير طلباتها واحتياجاتها خاصةً الضرورية، كالاعتماد على الابنة الكبرى في الذهاب إلى السوق لشراء المواد الغذائية، أو اصطحاب الأم المريضة إلى المستشفى مع سائق بالأجرة، فلماذا أصبح الأبناء من الشباب غير فاضي؟، ومن يتحمل المسؤولية من عدم تعليم الابن الرجولة منذ الصغر؟، هل هي الأسرة فقط؟، أم جميع المؤسسات التربوية الأخرى؟. أصحابه أهم تقول "أم محمد": والله الأولاد صاروا ما ينفعون همهم الأول الحصول على المال ثم الخروج مع أصحابهم، وإذا طلبت منهم شيئاً رفعوا أصواتهم وقالوا: "لدينا ما هو أهم منكم!"، مضيفةً: "أن الأبناء أصبحوا في حالة انشغال دائمة، والمشكلة أننا لا نعرف ما يشغلهم، فنحن لانراهم إلاّ في الشارع، حتى أصبح الشارع بيتهم الأهم والكبير"، مشيرةً إلى أنها لم تُرزق إلا ب"محمد" من أصل سبع بنات، وحاولت أن تربيهم جميعاً على الاستقامة والأخلاق الحميدة والطاعة والبر، ثم تخرج تنهيدة كبيرة من صدرها بعد أن تضع يدها على خدها الأيمن لتقول كمن يتحدث مع نفسه: "يقولون بروا أبناءكم كي يبروكم"، وأنا بذلت جهدي بعد وفاة أبيهم، وقدمت لهم كل ما في وسعي، والآن إذا رغبت في الذهاب إلى شركة الكهرباء لتسديد الفواتير أو الذهاب إلى سوق الخضار لشراء احتياجات البيت لا أجد ابني، بل إنه يصرخ ويتذمر ثم يخرج بعد أن يصفع الباب، ولا أسمع منه سوى كلمة "مشغول"!. تجمعات شبابية أخذت من وقتهم الكثير بعت ذهبي وأوضحت "أم محمد" أنه على الرغم من أنها باعت كل ما تحتكم إليه من ذهب زواجها حتى تشتري لابنها سيارة، لكنه لم يحقق لها ما تتمناه، بل لا يساعدها في تحمل المسؤولية، أو الاستجابة لطلباتها، فهو دائماً على الكورنيش مع أصدقائه، مؤكدةً أنه حينما انقطع الأمل منه أصبحت تعتمد على بناتها في التسوق، إلى جانب توفير احتياجات المنزل وتسديد الفواتير، عن طريق استئجار سائق هندي الجنسية، وهو سائق للمشاوير الخاصة، عرف في الحي بأمانته، ذاكرةً أنه على الرغم من أننا في أمس الحاجة للمال، إلاّ أننا نصرف الكثير منه على مشاويرنا الخاصة، ولكن "منة الله ولا منة خلقه، ومن قوتنا لحفرتنا". أضيق الحدود وترى "وفاء الخليفة" أن الأبناء أصبحوا يرفضون القيام بمساعدة أسرهم حتى في أضيق الحدود، مستشهدةً بقصة ابنتها الصغيرة التي مرضت كثيراً، وحينما اتصلت على ابنها الذي يدرس في المرحلة الجامعية أبدى امتعاضه وسخطه من ترك أصحابه والمجيء، فطلب منها أن تتصل بالسائق أو أن تتصل بوالده، مضيفةً: "حينما وبخته وأجبرته على المجيء لاصطحاب شقيقته المريضة، جاء بسرعة جنونية بالسيارة التي ليست ملكاً له بل لوالده، ثم أصطحبهما إلى المستشفى وهو متذمر وغاضب، مشيرةً إلى أن للأب دورا كبيرا في تعويد ابنه على تحمل المسؤولية منذ الصغر، فعليه أن يصطحبه إلى المسجد والسوق، وكذلك إلى مجالس الرجال منذ سن السابعة، وأن يضع له مهام محددة للقيام بها تجاه أسرته، حتى يشب وهو معتاد على تحمل المسؤولية وحب الانتماء للأسرة. «الأسر تتحمل «نهاية الدلال الزائد» وتغييب مسؤولية الحضور بحجة «توه صغير» قليلو النخوة ويتفق معهن "يوسف النجدي" الذي ينتقد الأبناء ويصفهم بأنهم "قليلو النخوة"، فالاخ أصبح يرى أخته تركب مع سائق خاص وكذلك أمه دون أن يشعر بالخجل أو بمسؤوليته تجاههن، فالعصر أصبح عصر السرعة والانشغال، وكلمة "مشغول" لم يعد يقولها الكبير من الأبناء فقط، بل أصبحت تتردد على ألسنة الصغار من الذكور والإناث، مضيفاً أن ابنه البالغ التاسعة من عمره، حينما طلب منه أن يشتري من "السوبر ماركت" القريبة من المنزل بعض "الحاجيات" البسيطة لوالدته، رفض دون أن يلتفت إليه، وقد رد وهو يلعب "البلاستيشن": أنا مشغول، دعوا أخي الكبير يذهب، وكأن هذا التعبير أصبح السبيل الوحيد الذي يتخلص منه الأبناء من مسؤولياتهم، مشيراً إلى أن بعض الأبناء يُعدون قدوة صالحة في القيام بأمور أسرتهم، وربما طال ذلك الإحسان الجيران أيضاً، مؤكداً بأن للأسرة دورا كبيرا في تربية الابن على تحمل المسؤولية والقيام بمهامه بمحبة ورضا. خطة للهروب ويوضح "د.صالح العقيل" -المستشار الاجتماعي- أن عبارة "ماني فاضي"، والتي يرددها الكثير من الأبناء للتخلص من مهام الأسرة، لا تتصف بالمصداقية، وإنما هي خطة للهروب من قضية الدور، مضيفاً أن التنشئة الاجتماعية للأبناء لم تعودهم على القيام بالأدوار داخل الأسرة، وبالتالي حينما يكبر الابن ويملك السيارة يصبح غير قادر على القيام بأي دور؛ لأنه ببساطة لم ينشأ على القيام بهذا الدور منذ الصغر، بل "يتملص" بكلمة مشغول، موضحاً أن قضية الشعور بالمسؤولية منخفضة جداً لدى الأبناء، وبالتالي فإنه مع هذا الانخفاض لا يوجد مؤسسات اجتماعية أخرى تعزز هذا الشعور، فالتعليم قائم على التعبئة فقط، ذاكراً أن ما يُعزز شعور الطلاب بالمسؤولية تجاه أسرهم ومجتمعهم ووطنهم غير موجود، فالقيام بتلك الأدوار داخل الأسرة هو جزء من الشعور بالمسؤولية الذي لابد أن يتحقق لدى الأبناء. ترتيب الأولويات وأكد "د.العقيل" أن بعض الأسر تفتقر لترتيب الأولويات، فعلى سبيل المثال حينما تخرج الأسرة برفقة الابن إلى السوق، فإنها تقضي وقتا طويلا وهي تطلب منه أن يذهب بها إلى عدة أماكن، وحينما تعود إلى المنزل تتذكر بأنها نسيت شراء الخبر، لتطلب من الابن الخروج لشرائه، مضيفاً أن هذا التركيز غير المدروس يسبب ضغطاً على الابن، وهو ما يولد الانفجار، حينها يبدي اعتراضه أمام أشياء ضرورية للأسرة فيقول: "أنا مشغول"، مبيناً أهمية تنبه الأسرة إلى مسألة هامة جداً متعلقة بشراء سيارة للابن، فعلى الأسرة أن لا تقدم على هذه الخطوة حتى تتأكد من أن الابن قادر على أن يمثل عضويته لها، من خلال قيامه بدوره، ومن خلال تعبيره عن شعوره بالمسؤولية الاجتماعية داخل أسرته، لافتاً إلى أنه حينما يصل هذا الابن إلى هذا المستوى، يفترض أن يقتني السيارة، إلاّ أن ما يحصل بأن الأسرة تشتري السيارة للابن حينما يكبر جسده، وليس على مستوى نضج عقله، وذلك ليس فقط على مستوى الأسرة فقط، بل كذلك على مستوى المجتمع والشارع والأنظمة وغيرها. لغة الحوار وأوضح "د.العقيل" أن الأبناء قد يكونون مشغولين، لكن يجب عليهم أن ينشغلوا بما يمثل دوراً لهم أو ما يمثل شخصياتهم، خاصةً أن بطاقة الأحوال الخاصة بالابن مكتوب عليها "طالب"، فبماذا ينشغل؟، مضيفاً أنه لابد من ترتيب الأولويات والاهتمام ب"المفقود الغائب"، وهو لغة الحوار المفقودة داخل الأسرة الواحدة، ولابد من مناقشة المهام ليس فقط على مستوى الأبناء بل كذلك البنات اللاتي قد يرددن هذه العبارة بما يخص القيام بمهام المنزل، ناصحاً كل أسرة بإعادة النظر في اهتمامها ب"لغة الحوار"، والتي تقنع الأبناء بكيفية أن لا يكونوا مشغولين لمجرد الانشغال فقط والتملص من المسؤولية.