لا ريب في أن استضافة اليمن لبطولة (خليجي20) شكلت بالنسبة لليمنيين مناسبة للتحرر من ضيق المكان وضغط الإعلام الأجنبي وهموم وإشكالات الحياة اليومية.. ومثل فسحة للترفيه عن الذات والتفاعل الثقافي الحضاري مع الجيران، ولكن الأهم من ذلك انه مثل رحلة روحية وثقافية ورياضية انطلق من خلالها هذا الشعب اليمني إلى معرفة جديدة لواقعه الإقليمي ووجد مبدأً صحيحاً للمقارنة التي تستدعي أكثر من شعبين وواقعين لمعرفة الذات والآخر من نواحي عدة تتجاوز مجال رياضة كرة القدم.. كذلك الحال بالنسبة للخليجيين والعراقيين المشاركين والمتابعين، وقد مثلت هذه الفعالية بالنسبة لهم رحلة استكشاف معاصرة لليمن والتعرف عليه عن كثب بكل عناصره المكونة (الجغرافيا، التاريخ، السكان، والنظام السياسي) وشكلت في الوقت ذاته أداة للمعرفة وبالذات فيما يتعلق بالقضايا والأمور التي ظلت بالنسبة لهم هاجس قلق وخوف صاحبهم حتى اللحظات الأخيرة التي وطأت فيها أقدامهم هذه الأرض الطيبة والانخراط في وسطها الاجتماعي، حيث منحهم الواقع صورة وروايات جديدة وجميلة وواقعية هي بالتأكيد مناقضة لكل ما كان لديهم من مخزون كبير من الصور التشاؤمية والسلبية المرعبة، وهو بالضرورة ما يقود إلى زعزعة القناعات إلى جانب الأفكار الخاطئة التي نجح الإعلام المعادي في زرعها في أذهانهم، ويجعل من حقائق الواقع كما شاهدوه أدوات معرفية جديدة تحض على هدم كل القناعات المغلوطة وإعادة بنائها بشكل واقعي سليم لا وجود فيه للتناقض بين روعة الحضارة وجمال الطبيعة وطيبة المجتمع وحبه واحترامه لضيوفه وأشقائه الخليجيين والعراقيين. في (خليجي20) أضحت معطيات الواقع اليمني وعناصره المختلفة (المادية- الروحية) هي المرجعية الإعلامية والمصدر الذي تتخلق فيه الحقائق المجردة القابلة للنشر والترويج الإعلامي لمكوناتها ومظاهرها السلبية والإيجابية وهي أيضاً الآلية المثلى لإعادة تصحيح انطباعات وقناعات الأشقاء الخليجيين المشاركين في هذه الدورة أو المتابعين لها عبر وسائل الإعلام.. صور الواقع كما شاهدوها وحقائقه كما عايشوها على الأرض اليمنية تتجاوز في فعلها واقع التشكيك بكل تصوراتهم المسبقة والجاهزة للوصول إلى معطيات مغايرة ومناقضة بالضرورة لكل ما نُشر في بعض وسائل الإعلام عن اليمن قبل الدورة وجعلوا منها أسباباً كافية لفشل تنظيمها واستضافتها في اليمن.. لكن النجاح كماهي العادة جاء مغايراً لكل تلك التصورات والتسريبات وأثبت خطأها، وأكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الأفكار والقناعات المسبقة والأحكام الجاهزة التي تصطنعها الحسابات والأهداف السياسية لا تنطق بالحقيقة، وحدها المعطيات المادية الثابتة والراسخة على الأرض قادرة على قول الحقيقة. التواصل الشعبي المباشر وغير المباشر بين اليمنيين والخليجيين وإن جاء في إطار التنافس الرياضي إلا أنه ومن خلال (خليجي20) ولد دينامية معرفية مفتوحة تثري فيها الأفكار والثقافات والسلوكيات بعضها البعض وتتيح للمشاركين إمكانية التعرف على الآخر وسلوكه وعاداته وتقاليده وأعرافه ويجعل منه مدخلاً إلى معرفة الذات وتجاوز حالات التشوش المعرفي والاضطراب في الوعي. لقد أسهم الإعلام الرياضي المصاحب ل(خليجي20) في إثراء التواصل المعرفي بين الأشقاء بتسخيره جزءًا كبيراً من أدائه في تقديم سيل من المعلومات والمعارف والحقائق عن الواقع اليمني بأبعاده المختلفة ولعب دوراً لا يستهان به في توسيع معارف ومدارك المتابعين لهذه الدورة عن اليمن وأوضاعه المعاصرة وجاءت الإسقاطات التاريخية التي تؤكد واحدية الجغرافيا والكتلة البشرية للمنطقة، لتقدم التاريخ عبر وسائل الإعلام كائناً حياً متسقاً ومتطوراً في مساراته وتفاعلاته الإقليمية ومستوعباً الحقائق الحاضرة. إننا على ثقة بأن الصورة التي قدمها الإعلام الخليجي عن اليمن بالتزامن مع هذه الدورة- مع وجود بعض الاستثناءات الشاذة التي لا تكاد تذكر- تأتي نتائجه في تراكم معرفي ثقافي يتجاوز الثقافة الرياضية إلى مستويات متعددة ويتيح المجال واسعاً للمقارنة بين الواقع وما أشيع حوله، وبين الحقائق الموضوعية والقناعات المسبقة، الأمر الذي يوفر إمكانية كبيرة لإعادة قراءة الواقع اليمني وأحداثه القديمة وتطوراته المستجدة برؤية أكثر واقعية تنطلق من الحقائق الواقعية الملموسة وليس من غيرها. (خليجي20) لقد أظهر شغف الجماهير اليمنية بالرياضة وكرة القدم بالذات والى أي مدى هي طموحة وعنيدة في سعيها إلى النجاح والتفوق واللحاق بالركب الخليجي، ولكنها في الوقت ذاته واعية جيداً بتاريخها وبحقيقة إمكاناتها المتاحة وأهدافها حيث تتصادم مع تطلعاتها في البحث عن التفوق والتجديد والابتكار.. وهو ما يجعلها على الدوام غير راضية عن ما أنجزته ووصلت إليه، ولكنه عدم الرضا الذي لا يولد اليأس والإحباط، بقدر ما يحفز على العطاء والإبداع، وتجلى هذا بوضوح في ردود فعلها على أداء فريقها الوطني الذي بذل جهوداً وإمكانات كبيرة في إعداده بشكل مبكر لهذه الدورة، فالصدمة المخيبة لآمال وتطلعات الجمهور اليمني كان رد فعلها صدمة معرفية –مضادة- بتاريخ وواقع ومتطلبات الرياضة اليمنية وسبل تطويرها انطلاقاً من حاضر يهتم بالمستقبل، وبعقل منفتح يرى في الخطأ والقصور عنصراً من عناصر المعرفة ومحفزات للتطور. يمكن القول إن (خليجي20) والخبرات التي اكتسبتها اليمن من تنظيم هذه الدورة والبنية التحتية والفنية التي تم إنشاؤها والاحتكاك المباشر للفرق الخليجية كلها عوامل تضافر فعلها المشترك لتضع قاطرة الرياضة اليمنية في مسارها الصحيح ومنحتها طاقة دافعة ومتجددة للحركة وتجاوز حالة الجمود والتقوقع.. لقد شكل (خليجي20) وما ترتب عنه من نجاحات بنيوية مادية وفكرية عملية وقناعات رسمية وشعبية، منطلقاً لإعادة التأسيس الكلي لواقع الرياضة اليمنية وفق رؤية جديدة تعتمد المنطق والعقل والمعرفة وتقوم على التفاعل والتكامل الشعبي والرسمي في تحقيق شروطها ومتطلباتها التنموية ضمن حيز زمني محدد واتخاذ التجارب والخبرات الخليجية النموذجية مرجعاً في ذلك.