أن تكون حراً مستقلاً فهذا معناه أن تدخل في حرب أبدية مع نفسك، ومع من يحبونك، هذه هي الترجمة الفورية لتاريخ الخيبات، خيبات ظن أصحابك فيك، فإذا قلت غير ما يتوسمونه فيك، أو خالفت رأياً كنت قد قلته من قبل أو غيرت موقفاً من مواقفك أو تصرفت بغير ما يريدونه منك، أو مددت يدك لأحد لا يمدون أيديهم إليه، فحينئذ تكون قد خيبت ظن صحبك فيك، وقد كانوا يكادون يقسمون أنك مثلاً لن تمد يدك للإسلاميين ولن تغير رأيك من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي، ويقسمون على المصحف أنك ترى أدونيس رائداً عظيماً، فإذا سمعوا على الهاتف مثلاً أن كتاباً لك قد صدر للتو وفيه تقول إن أدونيس رجعي ويمثل الحداثة الرجعية، فلسوف تطير إليك أخبار هذه المهاتفة وستعلم أن صاحبك قد صرخ على الهاتف قائلاً: هذا كفر بواح. قالها صاحبي قبل أن يرى الكتاب ولعله قد قرر أنه ليس بحاجة للكتاب وربما أقسم أنه لن يقرأ كتاب النقد الثقافي وهذا الغذامي ارتد وتراجع وانتهى. صارت هذه القصة ومثيلات لها رأيت فيها شباباً أصابهم حزن عميق حينما ظهر كتابي (النقد الثقافي) وظنوا بي الظنون واعتبروني قد تخليت عنهم، وأن ما درسته لهم من نظريات نقدية أحبوها وآمنوا بها وصاروا يطبقونها في جماليات النص وتعاليه وسموه النصوصي، كل هذا طار وراح تحت مطرقة النقد الثقافي وقبحيات النص والتحول إلى النسق، مع العبث بالقيم البلاغية وقلب السحر على الساحر، وهذا عندهم من باب التخلي وقت الزحف، وكأن القائد يخون جيشه ويترك المعركة وقت تأزمها. كان ذلك مؤلماً فعلاً ولقد رأيت الألم في عيونهم وسمعت أنين كلماتهم، ولم يكونوا أول خائب ظنه بي، فقد صارت هذه منذ أول محاضرة لي عن الحداثة في الطائف عام 1982م حيث جائتني ملامات من أخوة أكاديميين يحبونني وكانوا يعدونني صوتاً من أصوات التراث والتحقيق وكانت المفاجأة أن قلت في محاضرتي تلك كلاماً لا يقبله التراثيون وأفرح الحداثيين وجعل صوتاً من الجامعة يأتي إلى صف أولئك، وكان هذا مخيباً لظن صحبي، ولم يزل في نفوسهم علي شيء من هذا يغيب حيناً ويبرز حيناً في لوم مكتوم على تسامحي مع الحداثيين ثم تسنم الدفاع عنهم وتصدر موجتهم. حتى لقد أقسم بعض ممن أعرفهم ألا يقرأوا كتابي (الخطيئة والتكفير) وظلوا يستغفرون لي عن تلك الخطيئة. وحينما صدر كتابي (حكاية الحداثة) انعكست الآية فجاءني الحداثيون ينظرون إلي نظرة المستريب وكأنما صرت الخائن المارق، الذي زاد مروقه وتعزز بحجة دامغة مع كتاب النقد الثقافي ومع تصريحاتي بمد يدي للإسلاميين وقد كانوا يريدون مني أن أقبض يدي لا أن أمدها، ومنذ ربع قرن هالهم أن قبلت دعوة الأستاذ محمد صادق دياب مع عابد خزندار في تكوين جماعة ثقافية تعمل بجهد علمي منهجي متفاعل وتعاونت فيه ثلاثة جرائد هي المدينة والندوة واقرأ، ونشرت وقائع اللقاء في تزامن صحفي في يوم واحد، وكان هذا حدثاً فتح علي أبواب جهنم مع الحداثيين رافضين فيه هذه اليد الممدودة مني. في كل خطوة تخطوها سترضي شخصاً وستغضب آخر، ومن رضي عنك اليوم سيغضب غداً، وهذه سيرة مستمرة لا عجب فيها ولا بدعة في أمرها. يرضى الراضي لأنك قلت ما يريد منك أن تقوله ويغضب منك الغاضب لأنك فاجأت غفوته عنك بيقظة مباغتة لم يحتسبها منك، وأنا أعلم أن الفرحين اليوم بنقدي لليبرالية سيغضون مني غداً، لأن نقدي لليبرالية سيؤخذ من قبلهم على أنه تراجع عن شيء آخر وعلى أنه انتماء لصف دون صف، ولم يأخذه أحد على أنه جزء من المشروع الأكبر وهو (نقد الأنساق) ونقد المصطلحات ونقد المسلمات الثقافية بعامة سواء منها ما هو حداثي أو ليبرالي أو خطاب محافظ تواتر علينا حتى سلمنا به، وليست الليبرالية سوى صيغة من صيغ النسق الثقافي المحافظ والتقليدي، وليس فيها أي معلم تحديثي على المستوى النوعي أو المعرفي ولا على المستوى المنجز النظري أو التداولي، هي فصل آخر من فصول كتاب النسق، لا أكثر ولا أقل، وكل تشريح نقدي سيجعلنا نرى أن ما راهنا عليه لم يكن سوى خدعة ثقافية نسقية عميت عيوننا عنها، ولم يخرج من بيننا ناقد بصير يرفع الغطاء عن نواظرنا لكي نرى سوءاتنا المغطاة عنا بغطاء كثيف. هذا تدريب علمي لا بد أن نعود أنفسنا عليه، ويأتي على رأس هذا التدريب أن يتهيأ الباحث الناقد لأن يكون مثل الكوماندوس، أي على قدر من التحمل والتبصر، وإذا خطا نحو المعركة عليه ألا يفكر بالنصر أو الهزيمة، ولكن عليه أن يتهيأ لمغبات الطريق ومفاجآته، ويعرف أن في الدرب ثعابين وألغاماً وحصى وشوكاً، ولا بد له أن يتدرب على إطعام نفسه من نبات الأرض فيأكل المر والسام ويعرف أن الطعنة ربما تأتيه حتى من رفيقه الذي معه ليس خيانة من ذلك الرفيق ولكن الجندي المدرب يعرف أن النيران الصديقة قد تقع ولا بد أن يعرف كيف يتقيها لأنه لو سقط انتهت المهمة وفشلت العملية. في الفكر نحن في معمعة لا تختلف عن الحرب بنيرانها الخلابة وبنيرانها الصديقة، وكل من تفاجأ في قولك وصرت تقول غير ما يريدك أن تقوله فأنت قد خيبت ظنه وستأتيك النيران الصديقة، وتأتيك الصفات من كل صوب ووجهة، وسيقول أبو توفيق مثلاً: أنت يا عبدالله ناقد حر ولكنك مفكر محافظ. طبعاً أبو توفيق رجل محب ولك معه تاريخ طويل، وإن جاملته ولم تقل له رأيك في حملته هذه فستكون كذاباً في مشروعك النقدي لأنك تعفي الأصدقاء من مغبة نقدك وهنا ستخون نفسك، إما إن قلت له رأيك في جملته فأنت ستخيب ظنه مرتين، الأولى لأنك قلت في محاضرتك غير ما كان يريدك أن تقوله، والثانية أنك قمت بتشريح قولته تلك، وهو لم يكن يرغب منك أن تنتقد الليبرالية وما دام هو لا ينتقدها فيحسن بك ألا تخيب ظنه فيك وعليك أن تصفق مثله، ولو صرت مثله فستكون مفكراً حراً بل عظيماً لأنك في السرب ومع السرب ومع الجماعة، أما إذا خرجت عن بيت الطاعة فإن صاحبك هذا مستعد أن يظل طول المحاضرة يفكر ماذا يفعل معك وقد سببت له حرجاً وضيقاً ما كان يتمناه تلك الصباحية، وهنا أسعفته ثقاقته الثرية ومنحته جملة بلاغية فرح بها أولاً ثم طرب بها ثانياً ثم تورط فيها ثالثاً وقال: أنت ناقد حر ومفكر محافظ. كلمة تفرح مبتكرها برنتها البلاغية أما أنا فقد قالت لي هذه الجملة ما قالته لي من قبل كلمة المخرف والكذاب، سواء بسواء، وكلها تعني معنى واحداً، وهو: إن قلت ما نقول فأنت العظيم الحر والرائد المطلق وأنت الحكيم الصادق (صفق.. صفق)، أما إن خالفت تصنيفنا لك فلن تكون حكيماً ولن تكون مفكراً حراً ولن تكون صادقاً وسيكون معضلك معضلاً شخصياً، يا مخرف ويا كذاب ويا مفكر محافظ. وهكذا فإن من صفق لنقدي لليبرالية وفرح به لن يختلف عن أبي توفيق لأنه إن صفق اليوم فإنه سيصفني غداً بغير ذلك حينما لا يسمع مني ما يريدني أن أقوله. نحتاج إلى أن نتعرف على أساليب التدريب العالية لأنك إذا أردت أن تكون حراً ومستقلاً فأنت ستدخل في حرب أبدية مع نفسك. ولسوف تكون مقالاتي التالية مزيداً من التدريب على هذه الحرب الذاتية، وسأظل أرصد الردود وما يتبرع به الأصدقاء من صفات وستظل عندي مجرد نيران صديقة، وأبرز صفات النيران الصديقة أنها لا تعي ما تفعل، وأنها تضرب على ذاتها وليس على العدو، مثلما قتل الدب صاحبه في القصة المشهورة كما رواها أحمد شوقي، والقانون الأهم مع النيران الصديقة هي ألا تنجر لتبادل إطلاق النار معها، لأنك إن فعلت انصرفت عن مهمتك الرئيسة، هذا ما يفعله الجندي المدرب. ختاماً: أنت حر... فقط إذا كنت مثلي، هذا ما يجب عليك أن تتوقع سماعه من النيران الصديقة أمس واليوم وغداً، ذلك لأنك تخيب ظن من ظنوا أنهم جماعتك وعصبتك وإن كنت أنت لم تطلب تعصبهم لك قط، وظللت تردد بأنك حر ومستقل ولا تريد أتباعاً ولا مريدين ولا رفاق درب. ولعل الأحبة ظنوني أمزح أو أتتريق. وويل لنا كلنا من النسق الذي لن ننفك منه إلا بمزيد من الاعتراف به، وأنا أقول بملء فمي إنني نسقي حتى العظم مثلي مثل ثقافتي التي صنعتني، وكل نقد أقوله هو نقد ذاتي لي بالدرجة الأولى مثلما هو نقد لتجليات النسق الثقافية في الخطاب وفي السلوك وفي خطورة تحول (الناقد) إلى سلطة متعالية إذا لم يقبل بمقولة (الناقد منقوداً)، وهي مقولة طرحتها في البحرين قبل بضع سنوات وما زلت أقدح زنادها كلما احتكت الآراء وتساندت المداورات، وكل رأي نقوله وكل فكر ننتجه هو بالتالي صفحة من صفحات سيرتنا الذاتية. وفي المقالة القادمة سأدخل - إن شاء الله - في صلب الموضوع وسأشرع بسؤال ما الليبرالية ومن اللبرالي. ومعهما سؤال عن طريقة تقديم الليبرالية في خطابنا الصحفي، وآخر عن صورة الليبرالي في المجتمع، وهذه أسئلة أربعة ستكون في عدد من المقالات قد تصل إلى عشرين مقالة، ثم تنتهي بكتاب يلم أطرافها تحت مظنة نقد الأنساق وتجلياتها في خطاب الذات مع الذات وفي خطابها مع المختلف والمخالف.