يشهد عالمنا العربي في بلدانه المُختلفة مناسبات واحتفالات تُؤثر في بناء الإنسان وتحفيز تطلعاته المُستقبلية. فمن معارض للكتب، وجُلها أدبية وسياسية، إلى مسابقات للشعر، وجوائز للقصص القصيرة والروايات، وإلى مُنتديات للأدب، وندوات للثقافة الأدبية والسياسة، فضلاً عن مباريات وبطولات رياضية، وكذلك مهرجانات للمسرح والسينما والموسيقى والأغاني والمُسلسلات،؛ الفنية منها أو المُبالغ في فنها، إلى إعلام وقنوات فضائية تُغطي ما يجري وتعيده وتكرره، بل وتدعم المزيد منه. هذه النشاطات البارزة المُعززة بالإعلام القوي ربما تُقدم بعض الفوائد للأجيال الناشئة، لكن فيها أيضاً عدم توازن ناتج عن تركيز واضح على جوانب مختلفة من الحياة، وعدم تركيز يقترب من حد الإهمال على جانب آخر يستحق المزيد. الجانب الذي يبدو (يتيماً) لا يحظى بالاهتمام الإعلامي الكافي هو جانب تفعيل دور العلم وبناء التقنية في المُجتمع، وتحفيز الخبراء في هذا المجال وتكريمهم كما يُكرم الأدباء والفنانون والرياضيون وغيرهم. فالجانب الذي يحظى بهذا الاهتمام هو الجانب الفكري النظري، بل والترفيهي العام. والجانب الذي يحتاج إلى المزيد من الاهتمام هو الجانب التطبيقي التنفيذي الذي يستطيع تقديم معطيات تُفعل النشاطات الإنتاجية التي تُحرك الاقتصاد الوطني، وتُعزز إمكانات المُجتمع ومكانته على مستوى العالم. هناك بالتأكيد أسباب (لليُتم) الإعلامي للجانب التطبيقي، أو عدم الاهتمام الكافي به من جهة؛ وهناك من جهة أخرى أسباب لضرورة التركيز عليه وإعطائه المزيد من الاهتمام في المُستقبل. إذا حاولنا النظر إلى أسباب عدم الاهتمام، نجد أن بينها موضوع رسوخ المفهوم التقليدي للثقافة الذي يرى فيها الجانب النظري، ويغفل عن الجانب العلمي والتقني، أي عن جانب الثقافة العلمية والتقنية التي تُكمل الجانب النظري وتستجيب لمُتطلبات العصر. ولعل ما يُعزز هذا المفهوم المنقوص من الناحية الإعلامية أن جُل الإعلاميين هم من أصحاب التخصصات النظرية، وهذا ما يُؤثر على اهتماماتهم وتوجهات عملهم. وهناك سبب قوي آخر خارج إطار ما سبق. ويكمن هذا السبب في الموضوعات العلمية والتقنية ذاتها. فأصحاب التخصصات في هذه الموضوعات لم يستطيعوا أن ينقلوا تخصصاتهم بالقدر الكافي من المُختبرات وقاعات المُحاضرات إلى أرض الواقع كمُنتجات مُبتكرة أو خدمات جديدة. وعلى ذلك لم يعطوا التأثير المطلوب على مُجتمعهم، ولم ينجحوا في جذب اهتمام الإعلام، كما فعل أصحاب التخصصات الأخرى. ولعل هذا ما أسهم في اليتم الإعلامي لأعمالهم وتأثيرهم على المُجتمع. الموضوعات العلمية والتقنية وأصحابها يحتاجون في بلادنا إلى جرعة عالية من الاهتمام والتحفيز، لا تقل عن الجرعة المُعطاة لأصحاب الموضوعات والنشاطات النظرية. إنهم يحتاجون إلى هذه الجرعة حتى قبل أن يبدأ تأثيرهم على المُجتمع، بل ومن أجل تحفيز هذا التأثير. والسبب الرئيس هنا أننا نحتاج إلى قفزات تنموية علمية وتقنية ذاتية تقلل الفجوة بيننا وبين الدول المُتقدمة. وهذه القفزات تحتاج بدورها إلى تحفيز أصحاب هذه التخصصات. ونحن لدينا العديد من هؤلاء ونتوقع قدوم المزيد منهم مع تخرج طلبة الابتعاث الخارجي. ولا بُد لهؤلاء من أن يجدوا أمامهم في بلدهم مُحفزات كافية للعمل والتميز تحبب إليهم الإبداع والابتكار والإنجاز، وتُحفزهم على تقديم المعطيات المفيدة. وكما ترسخ مفهوم الثقافة قديمًا على أنه مُرتبط بالموضوعات النظرية، علينا ترسيخ مسألة توسيع هذا المفهوم ليشمل الموضوعات العلمية والتقنية. ونحن، بلا شك، نحتاج إلى ثقافة علمية وتقنية لجميع أبناء المُجتمع. فنشر هذه الثقافة وتوسيع دائرة الاهتمام بها، طريق مهم إلى العطاء والتقدم، نحتاج إليه في العمل على إغلاق الفجوة بيننا وبين العالم المُتقدم. آفاق تنموية - د. عبدالقادر الفنتوخ - اليُتم الإعلامي لقضايا العلوم والتقنية