-1- لم تنطق سعاد بحرف واحد، تركت الأمور تجري كما هي أيامها الماضية، تحلت بالصبر الذي لم تستسيغ طعمه، وأدركت أن بدايتها ونهايتها، لا تشبه بدايات ونهايات أخوانها الرجال، لذا لزمت الصبر رغماً عنها. تعطر مجلسهم برائحة زكية، كانت عبارة عن رائحة الفانيلا الخارجة من المطبخ حيث كانت سعاد تعمل قالب من الحلوى، ورائحة البخور التي بخرها أخو سعاد لمجلسهم الصغير احتفاء بالزائر القادم.. سلطان، الفتى الصغير، لم يكن ينكر هذه الرائحة الممزوجة في دارهم، فكثيراً ما صنعت أخته سعاد قالب الحلوى، وكثيراً ما بخر أخوها مجلسهم!!!.. كانت هي الكبرى من بين أخوانها، حكم عليها بالسجن في دار أبيها، مكافأة لتفوقها في الجامعة !!!... -2- لم تعلم حين تسلمت بيدها اليمنى شهادة الدكتوراه أنها قد استلمت بيدها اليسرى شهادة عنوستها!!!... تبوأت في دار أبيها حين خاف الكل من شهادتها، وأصبحت تنظر إلى الباب، مثلما كانت تنظر إلى شهادتها المؤطرة في غرفتها. لا أحد يختلف على حسن تربيتها، تحدثت عنها العجائز بكل جميل، وتباهت أمها كثيراً بجمالها الذي تنسبه إليها أيام شبابها، ورغم ذلك كانت تنتظر من كل زائرة أن تحدثها عن ابنها!!!.... قالت إحدى العجائز حين كان الحديث يمر بها : «أبدع الخالق في حسنها، فهي أنعم من بتلة الوردة...» -3- كانت سعاد تتفاءل برقم سبعة منذ صغر سنها، فإخوانها الأولاد كان عددهم سبعة، وهي السبعة نفسها التي تجسد سنين دراستها في الجامعة، ولم تتحمس كثيراً لذلك الرجل القادم من جهل عائلتها ليتقدم لها، وكانت محقة في ذلك، فعندما عرف أنها دكتورة، لم يعد لزيارتهم مرة أخرى!!!... وكان الزائر رقم (7) يبلغ من العمر خمسة وثلاثون عاما، أكبر منها بعشر سنوات، وكان أملها في رقم (7) فسارت الأمور كما تريد، لتصبح زوجة لهذا العريس الذي يحمل شهادة الثانوية فقط. وعاشا شهر العسل في شقتهما الصغيرة التي تتوارى بخجل خلف المدينة الصناعية، في جنوبالمدينة التي لم تطأ قدميها من قبل. في البدء لم ترفض زوجها، وأرادت أن تعيش كسائر الفتيات، ولكن هناك من يفهم الرضا على أنه ضعف، فزوجها ربط ذاك الضعف بحاجتها إليه، واستغل الموقف، حيث أصبحت حياته معها، حفظاً لأفكاره وعبثه، وحينما صارحته ذات مساء وقالت له أن يجد عملاً ليوجد صورته في دارهم، هاج وماج، وصرخ بأعلى صوته، وامتدت يده إلى وجهها، وحين سيطرت عليها الدهشة، لم ينزل يده ندماً بل تركها تضرب في جسدها بوحشية، اختبأت عنه في غرفتها بعدما أغلقت الباب، كان صراخه يكاد أن يوقظ كل سكان العمارة، وفجأة هدأ صوته، ما هي إلا دقائق حتى اكتشفت عدم وجوده في الشقة. بدأت تحاسب نفسها، تارة بالندم، وتارات أخرى بكرامتها، وقبيل الفجر، سمعت صوت الباب يغلق بقوة، فقامت من سريرها بسرعة وأغلقت الباب على نفسها، لتبين له غضبها، ولكن صوته القادم من خلف الباب، أشعرها بالخوف الشديد، الأمر الذي جعلها تلجأ إلى الاتصال بوالدها، الذي قطع المسافة من داره لبيتها بسرعة لم يعتد عليها، طرق الباب بهدوء، ولم يفتح الباب، حاول الطرق ولم يجد طرقه بنتيجة، اتصل عليها من خلال هاتفه المحمول، فأجابت باكية أنها ستفتح له الباب، فتحت بابا غرفتها بهدوء لتجده مرمياً على الأرض، ورائحة الصالة تموج برائحة ما حرمه الله، انطلقت بسرعة وفتحت الباب لأبيها، وحين توسط أبيها الصالة أدرك كل شيء، فأشار لابنته أن تحضر حقيبة ملابسها، فلم تتوان.. -4- قالت لصديقتها: - أرجو من الله أن يسهل لي أمري، وأحصل على طلاقي.. - هل وصلت الأمور بينكما إلى هذا المنتهى.. - وأكثر من ذلك.. وأطرقت ساهمة ثم أكملت حديثها، وعيناها في السماء وكأنها تسحب تاريخاً من الألم لترويه: - كنت كالرجل في البيت، طوال النهار نائماً في فراشة، أعود من عملي، وأجهز له الغداء، وحين يفيق مع غروب الشمس، يأكل ما جهزت له فطوراً وغداءً وعشاءً، أعتمد على وظيفتي، حتى سجائره كان يطلب مني المال، ليبتاعها، صدقيني يا أختي، لم أبخل عليه بشيء، لدرجة أنني بدأت أغض الطرف عن سرقته لمالي، وكنت أبرر سرقته بأنه رجل شرقي، ويخجل أن يطلب من المرأة المال، ولكنه تمادى في ذلك، وأصبحت لا أراه إلا وأنا خارجة صباحاً للعمل، لقد صغر في عيني كثيراً، لم أجد فيه الرجولة.. -5- كان طلاقها بعد شهرين من الجر والكر، أخذت ورقة طلاقها من المحكمة، شعرت بأن الهواء الذي تتنفسه غير هواء البارحة، كرهت من خلاله الرجال، واستكانت في بيت أبيها كما كانت.. ولكن الأيام لم تمهلها فرحتها، لتفاجأ بأنها حامل.. أصر والها حين علم بأنها حامل، أن يتدخل بينهما، لعلى وعسى، ولكنها رفضت ذلك، وبين إصرار والدها ورفضها، كان هو في بيتهم، يسمع كلام أبيها ويفكر فيها!!!.. -6- قالت لصديقتها: - أنا لا أريده، مهما يكن الأمر.. - ولكنه والد ما في جوفك.. - حتى لو كان، أنا أستطيع أن أربيه بدونه.. - ويعيش ابنك يتيم الأب، وأبوه حي.. - أبوه ميت، ليس هناك سوى ظله، وربما الحائط المتهرئ أفضل منه ظلاً.. -7- كل شيء مضى تداعى للنسيان، فأصبحت عقارب الساعة تعود للخلف، هكذا رأتها، حين كانت في دار زوجها، الذي لم يغير شيئاً من حياته، وربما زاد في تماديه القديم، فلم تكن شهادة الدكتوراه فقط هي النقطة التي استغلها، ليمكن نفسه منها على أنها نقطة ضعف، بل زاد عليك بذلك الرضيع الذي يبكي في حضن أمه.. مهما كانت تفعل، وتقول لأهلها عنه، كانت تسمع جملة «عيب يا امرأة»، فوسمت تلك العبارة حياتها حتى أنها قررت ذات يوم أن تترك عملها في المستشفى القريب، ليعلم أهلها، والكل معهم، أي ثوب يرتدي ذلك الزوج!!!.. -8- تراجع زوجها عن أشياء كثيرة في حياته، وتغيرت معاملته لها، حتى إنه وعدها أن يبحث عن عمل، كل ذلك صار حين علم بنوايا زوجته ترك العمل!.. وهي لم تكن جادة في ذلك، ولكن توصلت لذلك القرار لكي تنعتق من هذه الحياة التي تسير عل ميلان واحد، قدمت على إجازة، وقالت له: - لقد استقلت.. وقبل أن تتم قولها، عاد هو كما كان، حين امتدت يده لوجهها، ليفز الرضيع من نومه بين أحضان أمه صارخاً. عادت إلى بيت أهلها، لم تجد منهم القبول سوى من أمها، التي كانت ضد كل قرار يتخذ بشأنها، احتضنتها، وقالت بصوت يبدو صارخاً قليلاً: - أتركوا ابنتي.. ولا تعاندوا إرادة الله.. سكتوا كلهم أمام تلك الكلمات، وعادت الحياة بصخبها لزوجها، الذي كان وما زال يشرب ما حرمه الله في داره وحيداً، ويهذي بأن أبوها سيسحبها من شعرها، ويأتي بها إليه صاغرة.. -9- في وقت مفعم بالرطوبة، كانت سعاد تنظر إلى إطار شهادتها المعلقة خلفها في العيادات الخارجية للمستشفى، تقرؤها حرفاً حرفاً، وكأنها تراها أول مرة.. كانت ساعتها تشير إلى الواحدة ظهراً، وبقي من ساعات دوامها، ساعتان، أخرجت هاتفها المحمول واتصلت على السائق لتتأكد من خروج ابنها من المدرسة، ووصوله لبيت أهلها، وحين أطمأنت عليه، طرق الباب عليها وكانت الممرضة هي الطارقة، لتخبرها بأن هناك حالة صعبة جداً قد وصلت لقسم الطوارئ، سحبت نظراتها من إطار شهادتها، ووضعت الهاتف المحمول جانباً، وخرجت مع الممرضة لقسم الطوارئ. كان هو هناك مريضاً ممدداً على سرير أبيض، تغير لون لحافه إلى اللون الأحمر، كشفت عن وجهه وكان زوجها، كانت صدمة عنيفة لها، رأته فاقد الوعي، كوجهه حين كان ينام بجانبها، بخلاف الشعر الأبيض الذي كسي شعر رأسه ووجهه.. ارتبكت أمام هذه الحالة التي تعرفها جيداً، أشاحت بوجهها عنه، قرأت التقرير المروري الذي يوضح أصابته بحادث سير نتيجة قيادة لمركبته بسرعة عالية وتحت تأثير الخمر.. تركت التقرير جانباً، وسألت الممرضة عن دكتور معين، وحين أجابت الممرضة أنه يكشف على حالة جديدة وصلت قبل هذه الحالة، قالت للممرضة: - استدعيه ليكشف عن هذه الحالة.. وخرجت.. كانت الساعة حينها تشير إلى الثالثة وأربع وثلاثين دقيقة، خرجت غاضبة لأنه سرق من عمرها أربعة وثلاثين دقيقة، كان ابنها أولى بها !..