الخطابة في المحافل الحاشدة تحتاج تدريباً منذ الصغر وموهبة خاصة.. والعرب يهتمون كثيراً بالفصاحة والقدرة على هز المنابر وحشد الجماهير أو تأديبهم كما في خطبة زياد بن أبي سفيان في العراق والمسماة (البتراء) لأنه لم يبدأها باسم الله بل بالتهديد الشديد والوعيد المخيف، وكذلك خطبةالحجاج حين ولاه عبدالملك على العراق فجمع كبارهم في المسجد واعتلى المنبر وتلثم وصمت طويلاً حتى ظنوا أنه (حصر) أي خاف وعجز عن الكلام، وكان - فوق ذلك - قصيراً فهموا بأن يحصبوه (أي يرمونه بالحصا) فأزاح لثامه وألقى العمامة وصرخ بصوت قوي جلي: «أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني» ثم ألقى خطب نارية جعلت أوصال الحاضرين ترتعد.. وكلاهما (زياد والحجاج) قول وفعل، وقد اخمدا الفتن في العراق.. ولكنهما في غاية القسوة. واشتعل رأس عبدالملك بن مروان شيباً وهو صغير فسئل عن ذلك فقال: «شيبني صعود المنابر وقعقعة البريد». فصاحب البريد ما كان يحضر إلا بمعضلة حدثت في أنحاء ملكه وكان عصره شديد التمزق والفتن ولكنه أخمدها جميعاً ودفع ثمنها صحته فشاب صغيراً ومات دون الخمسين (ولكل أجلٍ كتاب). وصعد عبدالله بن عامر منبر البصرة - يريد ان يخطب وقد أمِّر عليها - فاشتد جزعه وأصابه الحرج فأمر مساعده (وازع بن مسعود) ان يقوم فيخطب مكانه فكان أسوأ منه اشتد حرجه وغضبه على زوجته فقال: ما أدري ما أقول لكم لكن زوجتي أجبرتني على الحضور فأشهدكم أنها طالق!! ونزل فارتج المكان بالسخرية والضحك.. وصعد اعرابي المنبر فرأى العيون تحدق فيه ورأى الصلعات تبرق فارتج عليه وغضب وصرخ: لعن الله هذه الصلعات!! ونزل فاشبعوه ضرباً!! وعكس هذا عتاب بن ورقاء تخلص من حرجه بما أفرح الحضور، فقد اعتلى منبر أصفهان يوم النحر - وهو أميرها - فارتج عليه فقال: «لا أجمع عليكم عيا وبخلاً، ادخلوا سوق الغنم فمن أخذ منكم شاة فهي له وعليّ ثمنها»! فتسابقوا لسوق الغنم يضحكون ويقولون: «ليت كل الخطب والخطباء هكذا»!! وتقول العرب: «يجب ان يكون الخطيب رابط الجأش، ساكن الجوارح، قليل اللحظ، فصيح اللفظ، جهير الصوت، قوي الحجة، بليغ البيان». وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خطيباً قوياً موجزاً، وكان يقول (لا يتصعدني شيء كما تتصعدني خطبة النكاح) أي لا يتعبني ويحرجني، وعلل الجاحظ قول الفاروق بقرب الوجوه من الوجوه، وكان من السائد ان يقوم - أثناء التقدم لخطبة امرأة - كبير القوم فيخطب في مجلس والد المرأة وهو مجلس صغير مزدحم الحضور. وحضر أعرابي خطبة نكاح فأطال الخطيب وغضب الأعرابي فنهض وقال والرجل يخطب مقاطعاً له ومشيراً إليه: - عندي شغل، فإذا خلص هذا فبارك الله لكم!! وصعد يزيد بن المهلب منبر البصرة فارتج عليه، وكان فارساً شجاعاً ولا يجيد الخطابة فنزل كما صعد ثم قال: «فإن لا أكن فيكم خطيباً فإنني بسيفي إذا جد الوغى لخطيب» فقيل: لو قلت هذا على المنبر لكنت أخطب العرب!