هذا العيد نسي أن يصطحب وإياه حقائب البهجة ، ودخل من البوابة الخلفية معتما كئيبا ، له نكهة الأدوية وممرات المستشفى ، تسلل على حين خلسة ونحن نتحلق حول فراش عبدالله بن خميس وقد اختار أن يطيل استراحة المحارب هذا العام ، وكان هناك عبدالله بن عبدالعزيز وهو يشكو لشعبه شغب المرض وسماجته فيجيبه شعبه بصوت واحد هادر متصل النبرة (ماتشوف شر يا أبو متعب) اعتدنا أو دربنا على أن نخفي ألوان مشاعرنا ونغلفها بستار من الوقار والسمت ، ونطأطئ في حضرة الأقدار ، تدربنا أن نظل على مسافة من لوعتنا ، نبقيها تحت السيطرة حتى لايخلخل جيشانها وقار المكان ، وتعلمنا في المجتمع أن الدموع هي وصمة النساء ورخاوتهن ، وأنها أمر لا يرحَّب به كثيرا حول سرير مريض أو عند سماعنا بمرض عزيز . الآلام تظل هنا مشكلة شخصية كلّ يحلها بطريقته الخاصة ، ولكن ليس على مرأى ومسمع من وقار المجلس . حتى ولو كان ألمنا على شخص من نوع عبدالله بن خميس ، أو رجل بمساحة عبدالله بن عبدالعزيز ، ، وحتى لو اكتشفنا فجأة أن هناك تهديدا لحضورهم الباذخ في حياتنا ، واهتزازا للأعمدة التي ينهض بها عالمنا بطموحنا وأحلامنا وتحدياتنا المتربصة عند كل منعطف . عبدالله بن خميس سرّب لي مفتاح بوابة الحياة مع غبش الطفولة عبر بيت شعر عندما قال :- ليس الحياة كما تعوّد جاهلٌ عيش الكفاف ومستوى محدودا إن الحياة هي الصراع فكن بها أسداً يصارع أذؤباً وأسودا كانت تلك الهمة العالية ، والروح الجياشة ، والرغبة المتصلة في مشاكسة المستحيل ومن ثم عسفه وتطهيمه وقيادته باتجاه القمم القصية ، كان يرصف جدران المكان حولي بفسيفساء القصائد وزخارف الكلمات ، يمرر لنا مشهدا يوميا على الكهرباء ذات الطاقات العالية التي تحملها كل كلمة في جريدة بل كل حرف في كتاب ، متأبطا حلمه دون أن تكل يمينه حتى إذا ما احتدمت الفتن وكثر اللغط له انتبذ (التل) ورفض إلا أن يرفع ثوب حلمه عن الدنس، نائيا هناك وسط غيوم حلمه الذي لايشحب أو يندمل . وإن تجاوِر وتماشي رجلا من هذا النوع خلال الدرب فستعلم به ومن خلاله أن المجد هو شيء ثمين ونادر لايمنحه التاريخ إلا لصفوته . عبدالله بن عبدالعزيز درّب شعبا كاملا على (فقه الحلم) وقاده نحو درب الممكن والمتحقق، وحينما استقبلنا نحن بناته في مجلسه بعد إحدى جلسات الحوار الوطني سألناه : هل تعلم كم يحبك شعبك ؟ فقال أنا أحبه أكثر . ذلك الحب الصحراوي النقي الذي لايجعله يخفي أطوار مرضه خلف الاسترابة والغموض اللذين اعتادت حكومات العالم العربي أن ترفعهما بينها وبين شعوبها بل زجاج الشفافية الناصع الذي رافق مسيرته كلها وهو يعلم أن ليس لديه من ريبة يضمرها، أو دنس يخفيه ، وهو يعلم ايضا بأن كل لسان في هذا الوطن سيقول يارب احفظه لنا ورده سالماً معافى . أنْ يُجمع عليك شعب كامل فهذا أمر نادر ولكن أن تميزك العروبة ويصطفيك العالم فهي بالتأكيد ملامح رجال التاريخ . يارب أن تحفظ لي عبدالله ... وعبدالله ولاتلوعني بهما ، إ نك على كلّ شيء قدير..