من فضل الله ومنته أن جعل لأمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لعباده الصالحين مواسم يستكثرون فيها من العمل الصالح ومنها شعيرة الحج، وهو المؤتمر الإسلامي الجامع، هدية الله لمن استطاع إليه سبيلا. الحج الصحيح طاعة لله وتزكية للنفس وتطهير للعبد من الذنوب والخطايا (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) وفى الحديث (إن الله فرض عليكم الحج فحجوا) "مسلم 6/85". واليوم تتوافد ضيوف الرحمن، على الأراضي المقدسة يتهادون، الرجل مهرولا، والمرأَة في مِشْيَتِها تَرَهْباً وتَكَفَّأُ في جموعٍ خاشعةٍ مرديين بصوتٍ واحد (لبيك اللهم لبيك) من كل بقاع الأرض مُستقبلين موسم الخير، يطلبون ويستكثرون من الأجر والمغفرة بالتوبة الصادقة النصوح، بالإقلاع عن الذنوب والمعاصي، يكبرون الله، ويهللونه، ويحمدونه، ويسألونه. وهكذا يستقبل الصالحون مواسم الخير عامة بالعزم الصّادق الجادّ يغتنمونها بما يرضي الرحمن ومن صدق الله صدقه الله (وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهدِيَنَّهُمّ سُبُلَنَا) "العنكبوت:69". فيا أخي الحاج أحرص على مشاركة ضيوف الرحمن (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) "البخاري 2/25" وفي الحديث (الحجاج والعمار وفد الله إن دعوه أجابهم وإن استغفروه غفر لهم) النسائي. ساهم أخي الحاج في اغتنام فرصة سانحة الحج قبل أن تفوتك فتندم، ولات ساعة مندم. وتعوّد أيها الحاج اتخاذ قرارك، بعد مزيد من التفكير والتحليل في خاصة نفسك وصلاح وسلامة حجك، فإن الاعتبار بمرور الأعمار (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء) أمارة بالكِبَرِ وهو من أفحشِها يدل مِن صاحِبِه على غايةِ الحماقَة، ونهاية الجهالة والغباوةِ، وكيف يليقُ بالحاج التكَبُّر في موطن التواضع، وهو مِمّن يعلم أنّه مخلوقٌ مِن نُطفةٍ مَذِرةٍ وعلى القُرب يصِير جِيفةً قذِرةً، أوَلا يخشى إذا تكبّر على ضيوف الرحمن، بما آتاه الله مِن فَضله أن يَسلُبَه ما أعطاهُ بِسوء أدبِه ومُنازعتِه لِربِّه في وَصفِه؟ لأن الكِبر مِن صِفات الله الجبّار المُتَكبّر، كما تأمر النفس بالرِّياء، فيَدُل على خُلُوِّ قلبِ المُرائي مِن عظمةِ الله وإجلاله لأنّه يتصَنَّع ويتزيَّن للمخلوقين، وكل سلوك قبيح ومخزئ، لا يشبه مقاصد الحج الشرعي. تأمل أخي الحاج بخشوع وأدب قوله تعالى: (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) وتجنب ما يحرم الحاج فضل ربه، ويحجب قلبه عن مولاه. فالحج واجب على الفور إذا تمت شروط وجوبه لقوله تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)، (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وفى الحديث (تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له ) "أحمد 6/52"، (وَمَنْ أرادَ الآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعيَها وَهُوَ مُؤمنٌ فَأولئكَ كانَ سَعْيُهُم مَشْكوراً). وتسأل نفسك أخي الحاج ما الذي ينبغي لمن أراد الحج المبرور المقبول، أن يعلم أنه الذي لا يخالطه معصية، وأن تتحقق واجباته ومستحباته وتجتنب محرماته ومكروهاته ويؤدي حجه كما حج سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلزمه التوبة النصوح وأن يختار النفقة الطيبة الحلال، وأن يحفظ لسانه عن الكلام المحرم، وعينه النظر المحرم، شعاره قول سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه). انظر أخي الحاج للكعبة بخشوع على التفصيل مفصلا، هذا الحجر وذاك الركن وهنا الملتزم والحطيم وتلك زمزم استشعر بتدبر فضائل كل منها رتل قول الله تعالى وأنت تدعو (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) مستشعرا عظمة الله في سمائه تأمل في جموع الحجيج الملايين يناجون ربهم ويدعونه ويسألونه ويتقربون إليه فابذل وجهك منكسراً أمام ربك من بينهم أمعن النظر في قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ)، تفقه في معنى الطواف ببيت الله وأظهر عظيم حبك له أمام أداءك لركعتين بعد الطواف فهي كعتق رقبة من بني اسماعيل، وأما السعي بالصفا والمروة كعتق سبعين رقبة وعند السعي والهرولة تصور «أُمنا» هاجر وبركتها هي وابنها عليهما السلام، ويوم عرفة تفاعل مع تلك الأجواء ذات التأثير الروحي العجيب الذى يملك السمع والبصر والفؤاد، وتضرع بالدعاء موقناً بأنه تعالى يذيق قلبك نسمات رحمته ونفحات حبه مستشعراً قول الحبيب صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من يوم أكثر عتقاً من النار من يوم عرفة وإنه سبحانه ليدنو فيباهي بهم ملائكته) وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أن الله يقول يوم عرفة لملائكته: (انظروا إلى عبادي! أتوني شعثاً غبراً يرجون رحمتي أشهدكم أني قد غفرت لهم)، استشعر طواف الوداع أنك تودع أياما وليالي من أفضل عمرك. وعليك أخي الحاج أن تجعل رحلتك التي من أجلها قدمت هي لآداء هذا الركن وفق المنهج الرباني والسنة المطهرة، مغتنماً ومتمتعاً بكل الخدمات التي وفرتها لك هذه البلاد قيادة، ومواطنين منذ قدومك حتى مغادرتك، من فتح الطرق، وإقامة الكباري، وشق الأنفاق، ووسائل النقل المريحة.. وآداء هذه الشعيرة في جميع الأماكن التي تتنقل فيها بالحرمين الشريفين والمدينتين المباركتين، والمشاعر المقدسة، في أمان واطمئنان وراحة نفسية، والكل مجند لخدمتك، ويعتبر ذلك شرفا أيما شرف يؤديه لوافدي ضيوف الرحمن.. سائلين الله أن يتقبل من الجميع حجهم، والله من وراء القصد،، * جامعة أم القرى.