في المقالة السابقة قلنا أن انتشار "البرودباند" غاية في الأهمية وأنه سيكون لانتشاره بسرعة كبيرة كنتيجة متوقعة لمبادرة "مؤشر انتشار البرودباند" في المملكة العربية السعودية التي أطلقها مجلس تنافسية قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات بالهيئة العامة للاستثمار تغيرات عميقة في كافة المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأمنية ووضعنا عدة تساؤلات مهمة وملحة منها مدى عمق التغييرات المتوقعة من انتشار البرودباند على كافة المجالات، وبالتالي على الكفاءة الإنتاجية للمواطن من حيث الأخذ والعطاء، وعلى مستوى معيشته ونوعيتها؟ وفيما إذا كنا كأجهزة حكومية ومنشآت خاصة ومؤسسات مجتمع مدني وأفراد سنتعامل مع انتشار البرودباند بعشوائية وعفوية أو بطريقة مخططة تتصدى لها جهة قيادية تتكامل مع كافة العناصر ذات الصلة لتحقيق أعلى الفوائد الممكنة من انتشار هذه الخدمة الهامة والحيوية؟ وأقول أن الكل متفق على أن العصر الحالي الذي نعيشه هو عصر اقتصاديات المعرفة (بعد عصري الزراعة والصناعة) وهو عصر قائم على استغلال المعرفة كأهم مورد للتنمية، ولكن ما لا يعرفه الكل أن كثيرا من المفاهيم تغيرت في هذا العصر وأن العمل بمفاهيم عصر الثورة الصناعية سيأتي بنتائج سلبية، وأن هذا التحول الاقتصادي يحتاج لذهنية ثقافية واجتماعية تتوافق وهذا التحول، وأن هذه الذهنية يجب أن تسود وبشكل متزامن في كافة القطاعات (حكومي، خاص، مدني)، كما تسود بين أفراد المجتمع وإلا فإن التخلف الذي نعاني منه مقارنة مع الدول المتقدمة سيبقى مصيرنا للأسف الشديد مع احتمال اتساع فجوته. الأخبار السيئة تقول أن الغرب المتقدم الذي ولد هذا التحول الاقتصادي ينسجم معه ويواصل مسيرة التقدم بينما لا زلنا لم ندرك ذلك وإن تم إدراكه على مستوى ضيق وأن الفجوة بين الغرب والشرق تتسع هوتها بمرور الزمن، والأخبار الحسنة تقول أن التقنية متاحة وغير حصرية بالعموم وأن الشرق يمكن أن يتطور ويندمج في الاقتصاد الدولي خصوصا الدول الغنية منه مثل بلادنا إذا توفرت لها البنى التحتية لاقتصاديات المعرفة والتي تشكل "البرودباند" الرخيصة والمنتشرة أحد أهم مكوناتها، وإذا أدركت هذه الدول قواعد اللعبة الجديدة ومفاهيمها ووضعت خطط إستراتيجية فعّالة لتطوير قطاع اقتصاديات المعرفة وأفراد المجتمع بشكل متزامن للحاق بركب الدول المتقدمة والاندماج باقتصادياتها التي تقود الاقتصاد العالمي. قطاعات اقتصاديات المعرفة في المملكة العربية السعودية التي يجب أن تحول رؤاها في كافة المجالات إلى العالم الافتراضي (الانترنت) بشكل متزامن لتلج المملكة في اقتصاديات المعرفة بطريقة سليمة وفعالة، وهي تقوم حاليا كما يبدو لي بتطويرات تكتيكية لاستخدام سهولة وسرعة الوصول والنفاذ والتواصل الذي توفره " البرودباند " كأحد الأدوات المتاحة لتحقيق غاياتها وأهدافها دون الانتباه لكون هذه الأداة أحدثت تحولا كبيرا في كافة المجالات يستدعي إعادة التفكير في تشكيل رؤاها الإستراتيجية وخططها التنفيذية ابتداء ومن ثم التفكير في طرائق التعامل مع جماهيرها المستهدفة من حيث نسبة استخدام الأدوات المتاحة إذ أن هذه الأداة ستلغي الكثير من الأدوات السابقة وتخفض التكاليف وترفع الكفاءة والجودة وتحقق عنصر المرونة وتعزز قوة النظام والتعامل المجرد من العواطف والمواقف الشخصية السلبية، وباختصار هذه الأداة ستعيد تكوين حياتنا وأجهزتنا الحكومية وشركاتنا ومؤسساتنا المدنية وعلاقتنا مع الزمان والمكان والمعرفة والأدوات المتاحة حاليا. إعادة تشكيل الرؤى للتحول للعالم الافتراضي الذي أنشأته شبكات الانترنت وأجهزة الحاسوب والبرمجيات أمر من الضروري أن تتصدى لقيادته جهة حكومية عليا (وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات، هيئة الاتصالات، هيئة الاستثمار،.. الخ) بما يتوافق وخطة الدولة التنموية بعد أن تتداوله مع النخب المتخصصة من خلال المؤتمرات والمنتديات والمحاضرات وورش العمل ذلك أن انتشار "البرودباند" واستخدام البرمجيات الحاسوبية الحديثة في كافة أنحاء المملكة سيفكك البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الحالية ويعيد تشكيلها من جديد بصورة قد لا تخطر على بال أحد منا حاليا، وأعتقد أن مجتمعنا سيتعرض لوابل من التحولات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتقنية تستوجب التخطيط من الآن للتصدي لها بالتعامل الإيجابي مع تطور ثورة اقتصاديات المعرفة. مظاهر هذه التحولات كثيرة وفي كافة الميادين والمجالات وسوف أتعرض لبعض منها في هذه المقالة على سبيل المثال لا الحصر، ومن أهمها التحول من اقتصاديات الندرة إلى اقتصاديات الثروة في مجالات اقتصادية كثيرة ومن أي مكان في العالم، نعم يستطيع اليوم أي جهاز حكومي أو شركة أو مؤسسة مجتمع مدني أو حتى فرد الوصول إلى شرائحه المستهدفة في كافة أصقاع العالم حتى ولو كانوا في قرية صغيرة يصعب الوصول اليها، كما يستطيع ابن هذه القرية أن يتواصل مع كل هؤلاء دون حواجز، وهذا تحول له تبعات كثيرة ومتعددة ومدهشة في المجال الاقتصادي ذاته وفي المجالات الاجتماعية والثقافية وغيرها وعلينا أن ندركها ونعترف بها ونتعامل معها بكل كفاءة واقتدار قبل أن نتفاجأ بآثارها لنتعامل معها بسياسية ردود الأفعال التي لا تخلو من الأخطاء الكثيرة. سهولة نفاذ ووصول مقدم الخدمة أو المنتج إلى المستهلكين في كافة أرجاء المعمورة وسهولة نفاذ المستهلكين إلى هؤلاء وتفاعل الطرفين بتواصل مزدوج الاتجاه في ظل توفر أدوات الإنتاج للهواة حتى في منازلهم بعد أن كانت حصرا على المحترفين الأمر الذي حولهم إلى منتهكين (منتجين ومستهلكين في آن واحد)، مكن منتجي السلع والخدمات من تخفيض تكاليف الإنتاج والعرض والتسويق والتخزين والتوزيع، حيث توسعوا بالتحول من المواقع المادية الفيزيائية إلى المواقع الافتراضية الصغيرة والعملاقة جنبا إلى جنب مع المواقع المادية والتي بدأ الكثير بالتخلي عنها ( غرفة تجارة دبي نموذجا )، الأمر الذي رفع كفاءتهم الإنتاجية والتنافسية، كما مكن المستهلكين من فرض إرادتهم والتعبير عن آرائهم بخصوص جودة الخدمات أو رداءتها وفيما يريدون أن يستهلكون وما لا يريدون بعد أن أصبح زمام المبادرة بأيديهم وأصبحوا مسلحين بقدر من الإرادة والحرية بدرجة كبيرة لم يكن الكثير من المنتجين قادرين على تخيلها من قبل. من هي الجهة الحكومية المؤهلة حاليا لقيادة التحول لنتعامل مع هذا الواقع الجديد الذي ستتعاظم قوته بانتشار "البرودباند" في كافة أنحاء بلادنا هو موضوع المقالة القادمة إن شاء الله.