إن الحديث عن التعليم العام يعتبر ذا شجون ذلك بسبب ارتباطه المباشر بكل مفاصل الحياة وهيمنته عليها ، وبالتالي يعتبر تطويره واصلاحه ذا أولوية قصوى . من هذا المنطلق جاء مشروع خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - لتطوير التعليم العام ملبياً للطموحات التي ينشدها كل مخلص ومحب لهذا الوطن الكريم.. هذا وقد أوكل هذه المهمة الصعبة إلى صاحب السمو الأمير فيصل بن عبدالله بن محمد وزير التربية والتعليم الذي عرف عنه اهتمامه الكبير بالمعرفة ومفرداتها والابتكار ووسائله وأهدافه. إن عملية إصلاح وتطوير التعليم تيحتاج إلى رؤى واقتراحات ذات أبعاد عديدة وقد تحدثنا في مقالة الأسبوع الماضي عن التحديات الثقافية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية، واليوم سوف نستعرض بعض التحديات الأخرى التي يجب أن تكون حاضرة وبارزة أثناء وضع الخطط والاستراتيجيات التي يتم بموجبها إصلاح وتطوير التعليم العام ذلك أن التعليم العام هو المرتكز والقاعدة الأساسية التي تبنى عليها أعمد الوطن سواء كان ذلك فيما يخص التعليم العالي أوالفني أوالعسكري أو ما يتبع ذلك من خلال مخرجات التعليم ككل. وهذا ينعكس على العمل الاقتصادي والاجتماعي والصحي والصناعي والزراعي وقبل ذلك وبعده إكمال حلقة ودورة التعليم ذلك أن المخرجات الجيدة للتعليم سوف تتولى إدارة ومزاولة التعليم وهذه سوف تكون مخرجاتها جيدة. أما المخرجات غير الجيدة للتعليم فسوف تقوم بإدارة ومزاولة التعليم بصورة غير جيدة، وهذا بالتالي يؤدي إلى تدهور التعليم من سيئ إلى أسوأ. إن عملية إصلاح التعليم وتطويره يجب أن تأخذ بعين الاعتبار البعد الآني والبعد المستقبلي وذلك بتنمية قدرات وامكانات التكيف مع الظروف والمتغيرات الجديدة والمستجدة ومواجهة التقلبات السياسية والثقافية والاقتصادية العالمية التي غالباً لها ارتباط بمصالح من يهيمن على المسرح الدولي سواء كان دولة أو دولاً. إن الوعي بالمتغيرات المحلية والعالمية يجب أن يكون هاجساً وجزءاً أساسياً من حراكنا وأسلوب تفكيرنا وما يشكله من عناصر ومقومات ترتبط بالمناهج الدراسية والمعارف التي تتضمنها واستراتيجيات تدريسها وطرق التفكير التي نتبعها ليس هذا وحسب بل إن المعلم يجب أن يلتفت إليه ويدعم ويعاد تدريبه مرات ومرات حتى يستطيع أن يحقق ما يوكل إليه من مهام وبدون وعيه وإلمامه بتكنولوجيا العصر ومتطلباته لن يستطيع تحقيق ما هو مطلوب منه بأسلوب عصري منافس. كما أنه لن يتمكن من أداء ما هو مطلوب منه ذلك أن التعليم هو الأداة القادرة على بناء قدرات الفرد وبالتالي تمكينه من أن يكون على مستوى تكنولوجيا العصر ومفرداتها. ولعل من أهم التحديات التي تواجهها الخطط والاستراتيجيات المستقبلية ما يلي: ٭ زيادة عدد السكان في المملكة تعتبر نعمة كبرى يجب أن نعمل على استمرار وتيرتها حتى نصل إلى الحد الذي يصبح هناك توازن بين عدد السكان من ناحية والمساحة الشاسعة للمملكة من ناحية أخرى .. وبين عدد السكان في المملكة وعدد السكان في الدول المجاورة مثل إيران وغيرها من القوى وذلك لحفظ التوازن السكاني وبالتالي الأمني. ولكن العمل على زيادة عدد السكان وتشجيع استمرار وتيرته ليس على الاطلاق ذلك أن لهذا النمو انعكاسات لا بد وأن تؤخذ بعين الاعتبار ولعل من أهمها استعداد خطط واستراتيجيات التعليم لتحمُّل تلك الأعداد المتزايدة ليس هذا وحسب بل لا بد من التفكير بما هو أبعد من ذلك وهو ضمان فرص العمل من خلال خلق مشاريع اقتصادية واستثمارية تستوعب الأجيال الصاعدة الحالية والقادمة. إن الاستغناء عن العمالة الأجنبية وخفضها إلى ما دون (10%) من سكان المملكة يجب أن يكون هدفاً نعمل من أجله ذلك أن النسبة القائمة حالياً (30%) تشكل هدراً اقتصادياً هائلاً ذلك أن هذه الأعداد تقوم بتحويل ما يزيد على (60) مليار ريال سنوياً إلى بلدانها وهذا المبلغ لو تم تدويره داخل الوطن لخلق فرص اقتصادية ووظيفية هائلة. إن نوعية التعليم هي المسؤول الأول عن هذا الخلل وذلك بسبب ضعف مخرجاته من ناحية وعدم تركيزه على هدف استراتيجي ملح وهو الوصول إلى الاكتفاء الذاتي. إن زيادة عدد السكان تتطلب أن تكون الرعاية الصحية والموارد الاقتصادية والبنى التحتية بما فيها التعليمية والاجتماعية جاهزة وهذا تتطلب تخطيطاً استراتيجياً والتخطيط الاستراتيجي الجيد لا يستطيع أن يقوم به إلا من كان تعليمه ممتازاً والتعليم الممتاز هو الهدف الذي تسعى له الدولة حفظها الله بشقيه العام والعالي. نعم إن المملكة تشهد حراكاً لم يسبق له مثيل في مجال التعليم العالي فعدد الجامعات من حيث الكم ومن حيث الكيف يسابق الزمن والسعي إلى الزيادة العالمية أصبح هاجس الجميع وفي مقدمتهم جامعة الملك سعود التي يوجد لديها وكالة للتبادل المعرفي ونقل التقنية ومركز تميز وحاضنة ابتكارات تؤسس لوادي الرياض للتقنية كما أن برنامج مجتمع المعرفة يعتبر خطوة زائدة تهدف إلى تسهيل تحول المجتمع إلى مجتمع المعرفة استيعاباً وانتاجاً ونشراً. إن جهود وزارة التعليم العالي نحو هذا الحراك وتعميمه لا يمكن أن يزايد عليه أحد لكن المشوار طويل والجهود تراكمية. ٭ إن التفجر المعرفي الذي تمثله الثورة التكنولوجية الحديثة التي عمت العالم هذه الأيام لها تبعات يجب أن نكون مستعدين للتعامل مع سلبياتها وإيجابياتها ولعل خير وسيلة لبلوغ ذلك أن يكون مستوى مؤسساتنا التعليمية على قدر من الكفاءة والمرونة بحيث نستطيع أن نحرز قصب السبق من حيث الاحتواء والاستيعاب وذلك من حيث الاهتمام بالجوهر وليس من حيث الاستخدام والمظهر، وبذلك نتحول من مجتمع مستهلك للتقنية وقشورها إلى مجتمع منتج ومطور للتقنية وجوهرها. وهذا يتم من خلال تعميم وفهم أدوات المعرفة وأساليبها بما في ذلك استخدام الحاسوب والإنترنت وتعميم فوائدهما، كما أن استيعاب عصر المعلومات والاتصالات والاستفادة من تدفق المعلومات والمعارف عبر المسافات عمل على تعدد مصادر المعرفة وسهولة الحصول عليها. إن العالم يتسارع تطوراً وتقدماً والعرب مازالوا في نقاش بيزنطي حول بعض المفاهيم والأولويات. كما أن حراكهم بطيء ويهتم بالقشور ووسائل الربح السريع الذي يعكس روح الأنانية وعدم المصداقية في الوسيلة أو الهدف. نعم إن التفجر المعرفي الهائل أدى إلى تغيرات كبرى في نظم التعليم ولعل أثره واضح في مجال الفكر التربوي ومضمون التعليم حيث إن المؤسسة التعليمية تعمل كمؤسسة اجتماعية وتربوية تركز على بناء قدرات المعلمين وتنمية مهاراتهم وغرس السلوكيات والقيم والمعارف والتوجهات المحمودة لدى الطلاب. نعم إن الدور التقليدي للمدرسة قد انهار وحل محله مفهوم متطور يتلاءم مع عصر الثورة التكنولوجية التي سوف يكون لها دور بارز في بناء المنهج وتقديمه وتعليمه. إن الحراك الواسع الذي تقوم به وزارة التربية والتعليم والذي تهدف منه إصلاح وتطوير التعليم العام واضح ومشاهد من خلال مشروع خادم الحرمين الشريفين لإصلاح التعليم. وبالتالي فإن هذا الحراك لا بد وأن يأخذ بعين الاعتبار كل المتغيرات والإرهاصات والتجارب السياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية والسكانية والتكنولوجية التي ألقت بظلالها في السنوات الأخيرة على منظومة التربية والتعليم خصوصاً عند احتساب الأولويات الخاصة بالاستراتيجيات والسياسات التعليمية التي يجب أن تأخذ البعد الإنساني والثقافي والعلمي بعين الاعتبار. إن التعليم يصبح ناجحاً إذا استطاع بناء الإنسان القادر على التفكير الإيجابي والنسبي المحصن ضد الفكر الضال والغزو الثقافي مهما تعددت مصادره ومشاربه. إن التطوير الذي لا يغفل التجارب العالمية خصوصاً في الأمور العلمية وكذلك يمتهن الاستقراء والتجربة والاستنتاج ويعتمد على ذوي الخبرة وليس على أصحاب الأفكار الآنية التي لا تمت للواقع بصلة هو الذي يبقى مع استمرارية التقييم والتقويم. إن بناء الخبرة الوطنية لا يتم إلا من خلال الممارسة والتدريب وإعادة التدريب أما الاعتماد على الخبرة الأجنبية والحصول على النتيجة النهائية فهو عدو الخبرة الوطنية وتراكمها. إن بناء ووجود الخبرة الوطنية وتراكمها هو الضمانة الأكيدة نحو التحول إلى مجتمع المعرفة ذلك أن مجتمعاً لا يوجد به خبراء متخصصون من أبنائه يظل يتسول المعرفة ممن يعطيها لمن يدفع أكثر وفي مثل ذلك الوضع يظل ذلك المجتمع مستهلاً لمنتوجات الآخرين. إن اللحاق بركب المعرفة المنطلق بصورة متسارعة يجب أن يكون من أولويات سياساتنا التعليمية ذلك أن التعليم اليوم لم يعد يخرِّج كتبة ومتخصصين نظريين ولم يعد يكافح الأمية بمعناها القديم بل أصبح لزاماً عليه تأسس الأجيال المتعاقبة بأسلوب يضمن لها مكاناً وسط المنافسة المحتدمة عالمياً حيث البقاء للأفضل كما أن مكافحة الأمية التكنولوجية أصبحت هاجس الجميع. نعم لم يعد المتعلم متعلماً ما لم يكن تعليمه متوافقاً مع روح العصر ومتطلباته التقنية إذاً نحن بحاجة إلى تعليم ينمي المهارات العقلية المختلفة ويزرع المعارف الحياتية والقدرة على توظيفها، نحن بحاجة إلى تعليم يعتمد على الرغبة والتوجه نحو انتاج المعرفة وليس استهلاكها فقط. نحن بحاجة إلى تعليم ينمي روح الابتكار ويتيح مساحة كافية للاختيار ناهيك عن تنمية وتثقيف الطالب نحو مستقبله من خلال تشجيع ميوله ورغباته. إن عقلية الشباب تتطور وتصبح أكثر نضجاً بعدما يتجاوز سن المراهقة، لذلك يجب أن يكون دور التعليم العام سبر اغوار الشباب وتشجيعهم حتى يعطوا أفضل ما يمكنهم تقديمه. إن انتشار بعض الظواهر السلبية معاول هدم في جسم العملية التعليمية ولعل انتشار ظاهرة الدروس الخصوصية وتسبب بعض قطاعات التعليم الخاص ولا أعمم فالأول له مشاكل اقتصادية واجتماعية. كما أنه يهدد ويضعف من قيمة المدرسة كمؤسسة تعليمية وتربوية والثاني همه تجاري بحت فهو يغدق بالدرجات دون محصول علمي مقابل. نعم يعتبر التعليم أحد الأنظمة الاجتماعية التي تقع عليها مسؤولية إعداد الأجيال القادرة على مواجهة التحدياتالتي تفرضها متطلبات التغيير وتفرضها التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية والمعرفية ليس هذا وحسب بل إن المساعدة على التكيف مع المتغيرات المحلية والعالمية والاستجابة المتوازنة لكل مستجد وجديد أصبح من أهم أولوياته. والله المستعان.