في البدء أود ان أشرح ما المقصود بالازواجية الواردة في العنوان، حتى يتجلى مغزى المقال دون لبس فالازدواجية المقصودة هنا هي الخاصية الاقتصادية التي تسمى اقتصاديات العالم الثالث بوجود قطاع استخراجي تصدير يعتمد على استخراج المواد الأولية وتصديرها ويكون على درجة عالية من التطور إذا ما قورن بباقي القطاعات الاقتصادية الأخرى الأقل تطوراً، هذه الازدواجية Dualism تعتبر من أهم معوقات النمو الاقتصادي في الدول النامية. لقد سنحت لي الفرصة حضور المؤتمر السعودي الدولي لحاضنات التقنية الذي عقد مطلع الشهر الجاري في مدينة الرياض، حيث كان لقاء المختصين والخبراء المحلين والأجانب فرصة ثمينة لتبادل الخبرات بين الحاضرين للمؤتمر، كان جل الأوراق التي قدمت تناقش مسألة الابتكارات ورعايتها وتسويقها وقد تمكنت من خلال المؤتمر التعرف على برنامج بادر عن قرب وهو تجربة وطنية رائدة يحسب لمدينة الملك عبدالله بن عبدالعزيز للعلوم والتقنية مبادرتها في توطين التقنيات العالية ورعايتها. طبعاً كانت لغة المؤتمر هي اللغة الإنجليزية فجميع الأوراق التي قدمت، والمداخلات والنقاشات، حتى الأحاديث الجانبية كانت تدور باللغة الإنجليزية، ومعلوم بأن السياق الذي يمارس بادر حراكه فيه هو سياق سعودي عربي له لغته الخاصة ونسقه الثقافي والقيمي، فهل نحن هنا بصدد ازدواجية تقنية على غرار الازدواجية الاقتصادية التي أشرنا لها سابقاً؟ فآليات التقنية ونقلها سوف تكون باللغة الإنجليزية ضمن سياقات ثقافية تأخذ من ثقافة المنشأ عنواناً لها، بينما ساحة الحراك والسوق المحلية والمتلقي سوف تكون باللغة العربية ضمن السياق المحلي وخصوصيته الثقافية، حتى ان القوانين واللوائح المنظمة للمبادرات التقنية سوف تكون ضمن السياق المحلي حتماً سوف نواجه ازدواجية تقنية تؤدي إلى عدم المؤائمة (Misalignment) بين مبادرات التقنية (عمل الحاضنات التقنية) وبين قطاع الأعمال المحلي الذي سوف يتولى رعاية وإنتاج الابتكارات مما يخلق فجوة معرفية وثقافية بين تلك القطاعات. فلو سلمنا بأن المجتمعات التي تشهد نمواً تقنياً هائلاً كاليابان، والولايات المتحدة تتخذ من اللغة الوطنية (اللغة المفردة) وعاء أوحد لإدارات جميع شؤونها العلمية والتعليمية والقانونية والسياسية، هي أكثر نجاحاً من المجتمعات متعددة اللغات، سواء سلمنا بذلك فإننا نرى ان الإجابة عن الأسئلة التالية بشكل واضح وجلي يساهم بتضييق الفجوة التي تنشأ من عدم المواءمة بين حاضنات التقنية وقطاع الأعمال. *ما مدى الحاجة للمواطن المعرفي في تنفيذ مبادرات التقنية؟ - هناك فرق شاسع بين الفرد المتعلم الذي حصل على شهادة علمية من معهد أو جامعة ضمن المنهج التعليمي المتعارف عليه وبين الفرد المعرفي الذي حصل على تلك الشهادة العلمية وصقلها بالممارسة والخبرة والموهبة طبقاً لاحتياجات السوق. فالفرد المعرفي هو أهم الأدوات المبدعة للابتكارات والمنفذة لها، ففي دراسة قدمت للكونجرس الأمريكي عن مدى الجاهزية الالكترونية لدول الآسيان، اعتبرت تلك الدراسة بأن المواطن المعرفي أهم عامل من العوامل الثمانية التي اعتمدت عليها الدراسة في تقييم الجاهزية الالكترونية لتلك الدول، فهل يوجد لدينا مواطن معرفي؟ *إذا كان الجواب بلا، فما هي أنجع السبيل لإيجاده وما هو السياق الثقافي واللغوي الأمثل الذي يجب ان يعد من خلاله؟ أما وقد تساءلنا عن المواطن المعرفي ودوره، فمن المستحسن ان نناقش ساحة حراكه من خلال طرح السؤال التالي: ما مدى الطاقة الاستيعابية المحلية لاحتواء التقنيات Absorptive Capacity؟ تعرف الطاقة الاستيعابية بأنها قدرة الشركة على تحديد، استيعاب، واستثمار المعارف من المصادر الخارجية (كوهين & ليفنثال 1990م). حيث يمكن قياس القدرة الاستيعابية على كافة مستويات المجتمع الاقتصادي (الأفراد، المجموعات، والمجتمع بأكمله) فالطاقة الاستيعابية لا تنحصر فقط بقدرة الشركة على تقليد منتجات الآخرين، ولكنها تتجاوز ذلك إلى قدرتها على الاستثمار في الفرص الأقل تجارياً والتي ترتكز على المعرفة مثل الأبحاث الأساسية، هنا يلعب برنامج بادر دوره الحيوي في تهيئة المجتمع ليكون ذا صلة بالطاقة الاستيعابية (لين & لابتكين 1998م). إن قدرة شركات القطاع الخاص المحلية (الشركات المتعلمة) على خلق القيمة، استيعاب، وتطبيق المعارف الجديدة المقدمة من الشركات الخارجية (الشركات المعلمة)، يعتمد بشكل أساسي على طبيعة المعارف المستوحاة، وعلى التقارب التقني بين المتعلم والمعلم لذلك، فإن تهيئة ثقافة محلية بأنماطها الاجتماعية المختلفة، وقيمها وأنظمتها وبلغتها المحلية لتجانس وتحاكي السياق الثقافي الخارجي يخلق مواءمة متوازنة تسمح بانسياب التقنيات بين قطاعات النظام الاقتصادي المحلي، وتسمح كذلك بتدفق التقنية من الخارجي للمحلي بسلاسة، بذلك تضيق الفجوة التقنية بين مراكز الأبحاث، قطاعات التقنية وبين شركات القطاع الخاص التي سوف تقوم بتحويل الابتكارات إلى منتجات مقبولة من المتلقي الأخير (المستهلك النهائي والذي يجب ان يكون لديه اهتمام وفهم لما يجري على الساحة)، عندما نصل لذلك التجانس الأخ0اذ ضمن سياق ثقافي موحد، نكون قادرين بحول الله الانعتاق من ربقة الازدواجية التي كانت ومازالت تصم اقتصادنا المحلي الذي يعتمد بشكل أساسي على استخراج وتصدير النفط، وتفتح لنا الآفاق للابحار في عالم الاقتصاد المعرفي بكل ثقة وقوة. ولكي تكتمل الصورة حول مناقشة هذا الموضوع لابد لنا من ان نتكلم نفس اللغة، طبعاً لا أعني هنا لغة اللسان سواء كانت عربية أو أخرى إنما أعني المصطلحات والتعريفات التقنية المتداولة في الحاضنات التقنية وتطوير الابتكارات، والقطاع الخاص، لذلك فإنني أهيب ببرنامج بادر ان يسارع بتوحيد المصطلحات التقنية ونشرها للجميع بشكل أدلة تعريفية، ليصبح المصطلح بمعنى واحد سواء ورد في لائحة تنظيمية أو في بحث علمي أو ورقة علمية تصف ابتكار معين. لعل تلك النقطة تحمل في مضامينها الا يقتصر تطوير البنية الثقافية للتقنية، لدينا على الباحثين والعلماء التقنين فقط بل أنه يلزم اشراك علماء الاجتماع، المجامع اللغوية، والقانونية، وعلماء الشريعة ليتسنى لهم مجتمعين، بناء ذلك النسق الثقافي القادر على استيعاب التقنية وتوطينها ونشرها بين قطاعات النظام الاقتصادي لدفعه باتجاه اقتصاد المعرفة بخطى ثابتة، ما لم يتم ذلك فإننا بصدد ظاهرة خطيرة، قد تبطى مسيرتنا نحو الاقتصاد المعرفي، ذات ملمحين إما ان تعيش التقنية ومكوناتها غربة موحشة (أول من أشار لهذا المعنى المفكر السعودي، د. تركي الحمد قبل أكثر من عقدين بمقال له في جريدة «الرياض» بعنوان (غربة الآلة) فتخلق وتبني دون ان نجني ثمارها، وإما ان نعيش نحن غربة مملة تدفعنا إلى النفور من كل ما هو قادم جديد وعندئذ يقال طوبى للغرباء.