من قديم الشعر الشعبي قيل في الحكمة: يبيد الفتى ما بين يوم وليله يبيد وهو ما يحسب انه باد الأيام ابادني وابادن هجرس وابادن شداد ابن عاد وباد ومما قرأت، أن البدو كانوا يقولون للمبالغة في قدم زمن الشيء المثل الشعبي (هذا من ثمدا ثمود وبَنْيَة العمود), ومعنى المثل أن ذلك الشيء غير جديد قائم منذ زمن بعيد يرمز له المثل برمزين أو عهدين بائدين, الأول عهد ثمود, وهؤلاء هم قوم نبينا صالح عليه الصلاة والسلام من العرب البائدة كانت في الحجر شمالي المدينةالمنورة فيما يعرف حاليا بمدائن صالح, والآخر (بنية العمود) وفيما يبدو أن المقصود به عهد قوم عاد الذين أبادهم الخالق بريح مهلكة بعدما كذبوا نبينا هود عليه الصلاة والسلام, فتشير بنية العمود, أي بناء العمود, إلى إرم ذات العماد. وقد قال بعض المفسرين إن إرم هذه مدينة. وفي بعض مصادر التراث العربي يروى أن ملك القوم, وهو شداد بن عاد, أمر ببنائها, وكانت تقع فيما يعرف قديما بالأحقاف جنوبي جزيرة العرب. ومعنى الأحقاف في اللغة العربية, ومفردها الحقف, الرمال عموما, أو ما اعوج واستطال منها. بعد هذه المقدمة أشير إلى أنني بصدد الجزء الثاني من مقال سيتبعه أجزاء أكتبها عن رحلة في الربع الخالي, وكنت طرحت في الجزء السابق الآراء التي قيلت حول سبب إطلاق اسم (الربع الخالي) على الجزء الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية, فذكرت ما ورد في مصادر التراث العربي, وأشرت إلى ما يشيع بين الباحثين أن منشأ الاسم جاء مما وجد في كتب الرحالين والمستشرقين المتأخرين الذين اطلقوا على هذا المكان اسم (The Empty Quarter)، والتسمية بذلك جاءت لأن هذه الصحراء المتصلة تغطي ربع مساحة شبه الجزيرة العربية إلى جانب أنها خالية من مظاهر الحياة البشرية بسبب قلة مواردها الطبيعية ووعورة طبيعتها التي يصعب معها التنقل في أرجائها وبالتالي ندرة وجود البشر معظم فصول السنة, وقلت أيضا إن أبناء القبائل التي كانت تنتفع من هذا المكان فتقصده لرعي الإبل كانوا وما زالوا يطلقون على الربع الخالي اسم الرملة. كما تناولت قولا جنح صاحبه إلى إعادة أصل التسمية لما جاء في قصص ألف ليلة وليلة, حيث يأتي في سياق بعض قصص شهرزاد, وصف لأرض نائية موحشة خالية من النباتات والحياة بأنها (الربع الخراب). ألف ليلة وليلة عمل أدبي قائم على خيال تلفه الأساطير الممزوجة بخرافات وخوارق وعفاريت منهم أبو السعادات ذاك الذي (يعترف) في آخر قصص شهرزاد أنه قدم من عصور سحيقة حيث كان خازنا لكنوز شداد بن عاد صاحب مدينة إرم ذات (العماد) التي قيل عنها في المرويات إنها مطمورة تحت الرمال في الأحقاف بكنوزها وأعمدتها المبنية من المعادن النفيسة والمرصعة بالأحجار الكريمة وسط بيئة غنية بالأنهار والنخيل والأشجار حسبما دُوّن في بعض كتب ومصادر التراث العربي بصورة تقترب من الوصف الاسطوري, ولعل هذا الوصف هو الذي أثار شهوة بعض الرحالة الغربيين ممن عبروا الربع الخالي في القرون الأخيرة فدفعتهم الرغبة في العثور على شيء من آثارها وكنوزها إلى المجازفة في التجوال بحثا وتنقيبا وسط كثبان ضخمة كالجبال ووعرة المسالك وملغمة بجماعات من القبائل البدوية لا ينظر الغربيون إلى أفرادها إلا والذئاب وجهان لعملة واحدة. إذا تجاوز الباحث نظريات الجيولوجين فيما يتعلق بكيفة تكون تلك الرمال في الربع الخالي, والخوض في طرح جدليات تاريخية حول طبيعة الحضارات التي سادت ثم بادت في الأحقاف أو وبار, فإن ثمة تحفظا لدى العلماء والمفسرين على تلك الأوصاف الأسطورية لإرم وعلى البيئة الطبيعة الغنية المحيطة بها بالصفة التي تذكرها بعض مصادر التراث العربي. وأعود إلى مقدمة الموضوع في الجزء السابق حيث ذكرت أن الربع الخالي كلمة ما أن تتردد بين العامة حتى تنطبع صورة ذهنية تنطوي على المبالغة والتهويل في تقدير ارتباطها بالجن, وهذه الصورة ليست بناء ذهنيا جديدا في خيال أبناء الصحراء ممن ارتادوا الربع الخالي وسكنوه مؤخرا, بل هي صورة ممتدة الجذور فالعرب تزعم قديما أن أرض وبار (الربع الخالي) سكانها جن, ولا يدخلها إنسي, فإن دخلها ساهياً أو متعمداً حثوا في وجهه التراب, فإن أبى إلا الدخول خبلوه أو قتلوه أو ضل فيها ولا يعرف له خبر. وهذا الزعم ومثله مرويات اسطورية تضمها بعض المصادر التاريخية عن وبار أو الربع الخالي هي - على حد وصف العلماء - افتراءات مردودة عند العقلاء.