سعدنا كثيرا، كأبناء لبلد الحرمين الشريفين، بإنشاء مؤسسة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز للأعمال الخيرية والإنسانية، وذلك لعدة أسباب من أهمها أنها تحمل النظرة الشمولية العالمية، وبالتالي فإن أعمالها ستتجاوز المناطقية إلى العالمية كما هي رسالة الإسلام الخالدة، كما أنها تحمل مسمى خادم الحرمين الشريفين مما يعطيها عمقاً وروحاً إسلامية واضحة في رسالتها وأهدافها إلى العالم. وبطبيعة الحال فنحن نعلم يقيناً أن طبيعة عمل هذه المؤسسة لن يخلو من تقديم يد العون للفقير والمسكين والمحتاج، وإنشاء المراكز الإسلامية والمساجد، ولا أعتقد أيضا أنها ستحيد عن استهداف تنمية القدرات وإنشاء المؤسسات التعليمية وغيرها، فكل ذلك من أولويات العمل الخيري.ولكن هل من منظور جديد وابتكاري للعمل الخيري والإنساني يمكن أن تتبناه هذه المؤسسة؟. من المؤسف حقاً أن العمل الخيري في المملكة، وفي معظم دول العالم الإسلامي، لا يزال محصوراً – في معظم أحواله - في مجالات محدودة مكررة، غالباً ما تصب في دعم الفقراء والمساكين، وبناء المساجد والآبار وتهيئة الدعاة والأئمة، وهي، وإن كانت مجالات ذات أولوية لا جدال فيها، إلا أن مجال العمل الخيري في الإسلام مفتوح على مصراعيه، يتطور بتطور الظروف وتجدد الأساليب ومتطلبات المرحلة التي يعيشها، ليشمل أعمالاً عالمية ابتكارية تسعى لنشر قيم الإسلام وسماحته لغير المسلمين، ولا تُحصر فقط في ذوي المسغبة، وتهيئة دعاة محصورين في مناطقهم. ومن هذا المنظور، فنتطلع بأن تكون هذه المؤسسة رائدة في العمل الابتكاري المستند إلى التجارب الدولية والمحلية في إدارة العمل الخيري والتطوعي، وأن تكون لبنة أساسية في تطوير مفهوم العمل الخيري في العالم الإسلامي والعالمي، وتبني برامج نوعية فعالة غير مسبوقة، ذات أثر متعدّ وبعيد المدى. ولعل ما سيميز هذه المؤسسة هو أن تتبنى استراتيجية التخصص في عدد محدود من مجالات العمل الخيري لضمان كفاءة العمل وجودة المخرجات، وعلى سبيل المثال فمؤسسة بيل وميليندا جيتس الخيرية التي يشارك في رئاستها الملياردير الأمريكي بيل جيتس وتصل ميزانيتها لأكثر من 24 مليار دولار، وضعت في استراتيجياتها التركيز على ثلاثة مجالات إستراتيجية، الأول يستهدف تحسين الصحة في الدول النامية، والثاني مساعدتهم في الحد من الجوع والفاقة، أما الثالث فيستهدف إتاحة الفرص للتعليم وتطويره في الولاياتالمتحدة، وتحديدا التعليم الثانوي (ذي المردود الاقتصادي) وما بعده ، وتلك مجالات محددة واضحة، وستساعد بلا شك في تحقيق أهداف تلك المؤسسة وتطلعاتها. ويتضح من الأمر الملكي أن لدى مؤسسة خادم الحرمين الشريفين خطاً متميزا سيشمل نشر التسامح والسلام، وتحقيق الرفاهية، وتطوير العلوم، وتلك من الجوانب التي يندر التوجه إليها في العمل الخيري في عالمنا الإسلامي. وسيشعر من يطّلع على تصريح سمو الأمير خالد بن عبدالله بن عبدالعزيز نائب رئيس مجلس أمناء المؤسسة، بأنها ستنطلق – بعون الله – بأسلوب نوعي استراتيجي جديد في العمل الخيري، حيث يُوضح التصريح أن من المجالات الاستراتيجية لعمل المؤسسة دعم جهود الحوار بين أتباع الحضارات والأديان، وتشجيعها والمساهمة فيها، ونشر معاني الوسطية والاعتدال والتسامح والسلام وتعزيز القيم والأخلاق، كما ستشمل أنشطتها تخصيص الكراسي العلمية والبحثية، وتشجيع أعمال الترجمة (من اللغة العربية وإليها) وإقامة المشاريع الإنتاجية. ودعونا ومن خلال هذا المجال الاستراتيجي الهام نحلم أن المؤسسة أقدمت على خطوة ابتكارية غير مسبوقة في العمل الخيري والإنساني، وتبنت مشروعاً نوعياً لإنتاج فيلم سينمائي عالمي يستهدف غير المسلمين، يُعد ويُخرج وفق ضوابطنا الإسلامية، ووفق أحدث أساليب الإخراج والإنتاج السينمائي ، يحكي قصة واقعية لأحد قادة المسلمين الأوائل ممن تحلوا بسماحة الإسلام والوسطية واحترام خصوصيات الأديان الأخرى، يُعرض فيه قيم الإسلام ومبادئ العدالة والرحمة والإنسانية فيه، يستقطب له نخبة من أفضل ممثلي العالم، ثم تقوم المؤسسة بشراكة مع كبرى شركات التوزيع العالمية لعرضه في دور السينما والقنوات الفضائية العالمية. ألا يمكن لحلم كهذا أن يساعد في نشر مفهوم الإسلام الصحيح بين أتباع الديانات الأخرى ونشر معاني التسامح والسلام؟، وأن يكون محط حوار حول الإسلام وقيمه؟. أليس هذا أبلغ من ألف محاضرة وندوة، وفي كلٍ خير؟، بالله عليكم كم من الخير سيحققه للمسلمين مثل هذا الفيلم لو أُنتج بطريقة احترافية عالمية؟. قد يخالفني البعض من العاملين في العمل الخيري في مثل هذا التوجه، بل قد يقول البعض ما هذا الهراء في العمل الخيري!!، لكن علينا أن نعي تماماً، أنه، ولكي نصنع التغيير في المجتمعات، فلا بد من محاكاة لغة العصر وفق ضوابطنا وقيمنا، واستخدام الأدوات التي تصنع التأثير في المجتمعات، فلم يُعد يكفي عقد المحاضرات والندوات وطباعة الكتب والمجلدات للوصول برسالة الإسلام السامية، ولا بد من التجديد والابتكار والوصول لكافة شرائح المجتمعات، وليس النخبوية والمثقفة فقط. ومن المعلوم علميا أن الإعلام (وخصوصا الإعلام الترفيهي) أداة تؤثر بفعالية في صنع التوجهات والمعتقدات والقيم في المجتمعات سلباً أو إيجاباً. ثم لنحلم أننا واجهنا قضية مشابهة لقضية القس الأمريكي تيري جونز ومطالبته بحرق المصحف الشريف، فبدلاً من أن نلعن الظلام ونشتمه ونسبه، أو نستنكر ونشجب وحسب، فيمكن لمؤسسة عالمية كمؤسسة خادم الحرمين الشريفين أن تتدخل بكل حرفية وقوة لتُنتج مجموعة منتقاة لإعلانات قصيرة مبتكرة، مدفوعة الثمن، عن سماحة الإسلام ورحمته بالعالمين، تبث في قناة السي إن إن أو الفوكس الإخبارية، وغيرها من القنوات التلفزيونية المؤثرة في المجتمع الأمريكي، لتساعد في تشكيل الرأي العام الأمريكي نحو الفهم السليم للإسلام. ودعوني أعود مرة أخرى للإنتاج الفني، ولنتخيل أن المؤسسة قامت بمبادرة ضخمة لإنتاج مسلسل كرتوني عالمي للأطفال يحكي قصة مجموعة من أطفال المسلمين المحبين للخير للناس أجمعين، يقومون بمغامرات في أنحاء العالم مروراً بالولاياتالمتحدة وبريطانيا والصين واندونيسيا وروسيا ،وأدغال أفريقيا، تُحركهم قيمهم الإسلامية في نصرة المظلوم أياً كانت ديانته وعِرْقه، يتم إنتاجه بطريقة احترافية شيقة ومثيرة، مشابهة لما نجده في الدول المتقدمة، وأن يكون ذا طابع غير مباشر في نشر القيم الإسلامية حتى لا يواجه بالرفض. ستقولون أحلام أليس كذلك؟!! لكن فكروا ملياً.. ما هو المردود الذي سيعود على المسلمين وتحسين صورة الإسلام من خلال هذا المنتج لدى أطفال العالم، أليست هذه هي اللغة التي يفهمها أطفال العالم ويتأثرون بها؟، ثم دعونا نتساءل.. أليس هذا من البرامج النوعية الخيرية الإنسانية العالمية، متعدية الأثر وذات المردود بعيد المدى؟!. وغني عن القول أننا بحاجة لمؤسسة خيرية تعكف على تمويل برامج بحثية نوعية كالأبحاث الصحية المعنية باكتشاف أدوية أو لقاحات أو طرق تشخيصية مبتكرة تكون – مرة أخرى- ذات أثر متعدّ ودائم، وكذلك تطوير مناهج تعليمية مجانية للتعليم العام أو العالي تدمج ما بين المعارف الحديثة وقيم الإسلام. كما أننا بحاجة في العمل الخيري للعمل وفق ما يُسمى باستراتيجية تمكين المجتمع (Community Empowerment)، والتي تُعطي الفرصة للمجتمعات المحلية للتكاتف، والنهوض بنفسها، واستثمار الموارد المتاحة لديها، والاعتماد على الذات. وكلنا أمل بأن يكون لهذه المؤسسة الخيِّرة دور أساس في تطوير مفهوم العمل التطوعي (Volunteering)، فهذا الجانب يعتريه الكثير من القصور لدينا بالمملكة وفي العالم الإسلامي ككل. في اعتقادي أن العمل الخيري لدينا، وفي العالم الإسلامي، لا يجب أن يظل محصورا في الأساليب التقليدية فقط، وأن عليه أن يخرج ليواكب المستجدات والتطورات العالمية، ويقدم أعمالا مبتكرة إبداعية تحقق الوصول للأهداف بجودة عالية، وهو ما نستبشر بتحقيقه في تلك المؤسسة العالمية بدعم خادم الحرمين الشريفين - وفقه الله - والقائمين عليها. على كل نتطلع بعون الله وعلى المدى القريب بأن تكون هذه المؤسسة نواة للعمل الخيري الإبداعي المحترف، وأن يكون لها دور في تطوير مفهوم العمل الخيري والتطوعي ليس في العالم الإسلامي وحسب، بل في العالم أجمع. *خبير تعزيز الصحة والمدير الفني للجمعية الخيرية للتوعية الصحية