من أصعب الأمور على النفس المطمئنة أن تجد من يبادر بالخير في مقابل من يقف أمام تلك الجهود معيقاً لها بدلاً من نصرتها أو على الأقل تجاوزها عند عدم القناعة بها أو حتى نقدها الذي يصلحها لا أن يهدمها ويحبط أهلها، عملاً بقوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)، ومن ذلك المبادرات التي تصل إلى حد الاستراتيجيات، سواء كانت في شأن ديني أو دنيوي، فالديني كبرامج الوسطية والاعتدال، والدنيوي كبرامج المسؤولية الاجتماعية والتنافسية الاقتصادية، ولذا أقيمت مجموعة من الكراسي الجامعية المتخصصة بهذه الاهتمامات، فهناك كرسي الأمير نايف لدراسات الأمن الفكري في جامعة الملك سعود، وكرسي الأمير خالد الفيصل لتأصيل منهج الاعتدال وكرسي المسؤولية الاجتماعية في جامعة الملك عبدالعزيز. والمسؤولية الاجتماعية ليست بمثابة مبادرات اختيارية تقوم بها المؤسسات صاحبة الشأن، وإنما هي صورة من صور الملاءمة الاجتماعية الواجبة عليها، عبر الالتزام بالمساهمة في التنمية المستدامة من خلال العمل مع الموظفين والمجتمع لتحسين مستوى معيشة الناس بأسلوب يخدم التجارة والتنمية في آن واحد، وهنا نشير إلى وجوب التزام المؤسسات الخاصة بعمل الصالحات عند ممارسة أنشطتها تجاه مختلف الأطراف، وذلك بهدف النهوض بالمجتمع، مع مراعاة عناصر الاستطاعة والشمول والاتزان والاستمرار، لأن المجتمع الإسلامي متكامل ومتعاون، ولا تنفك الممارسات عن القيم التي حددها الكتاب والسنة، مع التوفيق بين النزعة الفردية والجماعية، واحترام الملكية الفردية في نظام الاقتصاد الإسلامي دون تجاوز لواجباته كالزكاة والصدقة، بعيداً عن الاستغلال والاستئثار بالثروة وكنز المال، وتوازنه بين المادة والربح من ناحية، وبين الفرد والمجتمع من ناحية أخرى، وحسبنا قوله تعالى (وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين)، فنحسن من خلال المال على الآخرين، وعدم الفساد بالرشوة وشراء الضمائر وتلويث البيئة لتحقيق أقصى ربح على حساب المجتمع، وهو وسط بين الرأسمالية والاشتراكية، فنحسن لغيرنا فرداً وجماعة، ونعمر الأرض بأعمالنا المفيدة والنافعة، ونبادر إلى فعل الخيرات والحرص على مصلحة الجماعة، والقيام بالخطط والبرامج الاجتماعية التي تساعد على قيام المجتمع المترابط بمصالح جميع فئاته، لأن قيمنا تجمع بين المنافع المادية والروحية معاً، عبر العدل والإنصاف والإحسان للغير عملاً بقوله تعالى (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم)، ويكفينا قوله تعالى (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره). والمسؤولية الاجتماعية ليست بمثابة مبادرات اختيارية تقوم بها المؤسسات صاحبة الشأن، وإنما هي صورة من صور الملاءمة الاجتماعية الواجبة عليها، عبر الالتزام بالمساهمة في التنمية المستدامة من خلال العمل مع الموظفين والمجتمع لتحسين مستوى معيشة الناس بأسلوب يخدم التجارة والتنمية في آن واحد، ولن يتحقق هذا الأمر بمجرد التوعية وإنما يحتاج للتحفيز السلطاني، لأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ولذا نحتاج لتشجيع منشآت القطاع الخاص على تبني معايير التنافسية المسؤولة، كإعطاء الأفضلية في المناقصات الحكومية وتأشيرات الاستقدام للمؤسسات الأكثر تقديماً للخدمة والمسؤولية الاجتماعية، مع حث الشركات على استحداث إدارات فاعلة مخصصة للمسؤولية الاجتماعية والتنافسية الميدانية، وتقوم بوضع الاستراتيجيات لتطوير الأداء، مع إجراء دراسات على محركات المؤشر السعودي للتنافسية المسؤولة، ورصد التغيرات في أداء الشركات والعوائق التي تحد من تحقيق أعلى المستويات، والتركيز الإعلامي على هذا المؤشر لاستقطاب المزيد من منشآت القطاع الخاص لدعم القدرات والمخرجات، ورفع مستوى الوعي بأهمية التنافسية المسؤولة للشركات ومسؤوليتها تجاه المجتمع، ونؤكد على قوله صلى الله عليه وسلم (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). وأشهر الأنشطة التي يمارسها القطاع الخاص لتطبيق المسؤولية الاجتماعية تكمن في المحافظة على البيئة وتوعية المجتمع ونشر التعليم ومكافحة الغش التجاري والمشاريع الخيرية والاجتماعية والثقافية والصحية وحتى الترفيهية مع القضاء على الفقر والبطالة، وليس هذا بعسير على القطاع الخاص الذي يمثل نصف الناتج المحلي الإجمالي لبلادنا، ولو نظرنا إلى المبادئ الثلاثة للمسؤولية الاجتماعية في العالم حسب ما ذكرها الأمين العام للأمم المتحدة، وهي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وإعلان المبادئ والحقوق الأساسية في العمل الصادر عن منظمة العمل الدولية، وإعلان ريودي جانيرو حول البيئة الصادر عن مؤتمر قمة الأرض؛ لوجدناها جميعاً تمثل التأكيد على قيمنا الدينية والأخلاقية المتجذرة في مراجعنا الأصيلة، وذلك لجعل الإنسان أكثر سعادة، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم (خير الناس أنفعهم للناس)، مع مراعاة المسؤولية المدنية بالتعويض، والمسؤولية الجنائية لمن ارتكب مخالفة أو جريمة، والمسؤولية الأخلاقية بكون الحرية تقف عند حدود حرية الآخرين، وكما قيل "إذا أردت أن يكون عملك نافعاً فاجعله نافعاً للناس أولاً". ونؤكد على أركان المسؤولية الثلاثة من "الرعاية" النابعة من الاهتمام بالجماعة المسلمة، و"الهداية" النابعة من الفهم للجماعة ودور الفرد المسلم فيها، و"الاتقان" النابع من المشاركة الإيجابية تقبلاً وتنفيذاً وتوجيهاً، ولابد من الارتباط بين الحقوق والواجبات، والضمير الفردي والجماعي، والهوية والمواطنة، والأخلاق والقيم، والإدراك الاجتماعي والمصلحة العامة. ومن المسؤولية الاجتماعية عدم الأنانية في الفارق الشاسع بين مخرجات الموارد البشرية في مقابل أجورها، ولذا يطيب لي أن أشيد بمقال أخي الدكتور حمزة السالم في الجزيرة عدد 13896 بعنوان "مبادرة: لا نريد صدقة بل أجراً كريماً على عمل"، والتي تحمل همّاً اجتماعياً يشكر عليه ونحتاج إليه، وفي ذات السياق نقدر أول المستجيبين والمبادرين برفع الحد الأدنى لأجور السعوديين عند خمسة آلاف ريال، وهو الدكتور عبدالله بن محفوظ والذي نشر تصريحه في هذه الصحيفة عدد 15455، مع جِدِّيته عبر مخاطبته لوزارة العمل للإشراف على المبادرة والرقابة عليها، ومثل هذا المقال وهذه المبادرة يجب أن نقف منهما موقفاً إيجابياً لمزيد من المقالات والمبادرات الوطنية التي تعد منطقية اقتصادية ومصلحية اجتماعية، مع الأخذ في الاعتبار أن هذا الحد قد يقصر مبدئياً على قطاع التجزئة لتحفيز الإحلال الوطني ثم يتم تعميمه تدريجياً على بقية القطاعات. وكما أن هناك مسؤولية اجتماعية وتنافسية إيجابية في القطاع الخاص، فكذلك هناك حاجة ماسة ومن باب أولى في القطاع العام، بحيث تتنافس الأجهزة الوطنية فيما بينها من ناحية وتتنافس مع دول العالم من ناحية أخرى، فيجب علينا أن نقدر المسؤول المخلص وندعمه لا أن نحطمه ونحبطه، وبما أن لغة الأرقام هي المقنعة لأنها المنطقية، فيحسن أن أشير وأشيد بخطة الهيئة العامة للاستثمار "10×10" والتي تستهدف الوصول بوطننا إلى مصاف أفضل 10 دول في العالم من حيث تنافسية بيئة الاستثمار في عام 2010، ومن أهم ما لفت نظري أن نسبة الضرائب على الاستثمار الأجنبي قد فاقت نسبة الزكاة حيث بلغت 7.3 مليارات ريال لعام 2009 وبنسبة 52% من إجمالي إيرادات مصلحة الزكاة والدخل، وهذا يعني أن الاستثمار الأجنبي هو الداعم الأكبر لإيرادات المصلحة وذلك بوثيقة رسمية اطلعت عليها صادرة من المصلحة، ومن المعروف أن إيرادات المصلحة تحول للضمان الاجتماعي، وبالتالي فالاستثمار الأجنبي قد حقق الكثير من المكاسب الوطنية سواء على صعيد مكافحة الفقر وذلك بدعم الطبقة الدنيا عبر الضمان الاجتماعي بواسطة الضرائب المدفوعة، أو على صعيد مكافحة البطالة بتأمين أكثر من مائة ألف وظيفة، أو على صعيد الاقتصاديات الأخرى، ولا يعني هذا الكمال، ولكن بكل تأكيد يعني النجاح الذي يوجب الشكر والتقدير والنقد الإيجابي المخلص الذي يبني ولا يهدم، ويشجع ولا يثبط وينمي ولا يحبط.. والله تعالى من وراء القصد وهو المستعان..