أرى بجلاء ، وبكل المحبة ، ما تيسر من حياة كبير المقام استاذنا "نجيب محفوظ" عشت عمري ، منذ وعيت حرفة الكتابة مؤمنا أن هذا الرجل مثال للقبض على زمنه ، ووقته بإرادة كأنها المحال .. لم يفلت لحظة لم يكن فيها نافعا .. أتأمل أحواله بكل الدهشة ، وأتعجب !! كان دائما ما يردد أمامنا على المقهى :"الإلهام هو القدرة على أن يخلق الإنسان لنفسه انسب حالات العمل" .. وكنا إذا سألناه : كيف أنجزت كل هذا الانجاز العظيم عبر سنوات عمرك ، وأسست كل هذا التأسيس ؟ .. وكان يجيبنا قائلا : الشيء الذي اعتز به إنني كنت مخلصاً لعملي ، ومحبا له : وكل هذا جاء تتويجا للاجتهاد" . كأنه يخبرنا عن نفسه عندما يقص في " أصداء السيرة الذاتية" كتابه الهائل "دائما هو قريب مني. لا يبرح بصري أو خيالي ، يريق على نظراته الهادئة القوية . من وجه محايد ومن حين لآخر ينظر في ساعته موصيا إلى بأن افعل مثله . أضيق به أحيانا ولكن ان غاب ساعة ابتلاني الضياع ، جميع ما لقيت في حياتي من تعب أو راحة من صنعه وهو الذي جعلني أتوق إلى حياة لا يوجد بها ساعة تدق" . هكذا قال .. وهكذا كنا نتأمل يومه بالعجب .. حين يستيقظ من رقاده في الفجر .. يصنع لنفسه ما يسد الرمق .. يخرج من بيته سائرا قبل ضوء النهار .. يتأبط صحفه وكتبه .. يتأمل أول النور ويشاهد النهر ، يلقي التحايا على البشر المبكرين ، والمتوكلين على ربهم داعين أن يفتح عليهم الفتاح أبواب الرزق الحلال ..يمضي متوحداً في ليل مدينة لم تنهض من رقادها بعد ..يجلس على المقهى يقرأ العالم في جرائده ، ويذهب إلى عمله ليعود ظهراً يستريح وبالليل يواصل إبداعه .. وهكذا يوم بستين عاماً. واجه محفوظ الحياة بعناصر محددة : * الصبر الرواقي الذي ساعده أن يبدع رموزه ومجازاته ومن ثم يطرح أسلته. * موهبته وثقافته اللتان واجه بهما زمنه ومشوار عمره. * إرادته التي ظلت فاعلة حتى رحيله. ولنا كلام عن هذه الإرادة !! بعد إصداره روايته "أولاد حارتنا" وقع نجيب محفوظ تحت مطرقة التعصب الديني الأعمى ، وسندان دولة لا تهتم بمستقبل شعبها .في ذلك المناخ خرج شاب جاهل ، في غيبة من امن وقانون فاعل ، وغرس في عنق الشيخ خنجر الإرهاب مدفوعا بالتطرف الديني ، ومنتميا لمنطق التكفير ، والدعوة لاستئصال أي فكر مغاير حتى لو كان دعوة للاستنارة والمعرفة. اذكر هذه الليلة وكأنها حدثت بالأمس ولأنها وقعت بالقرب من مستشفى الشرطة فقد تم نقل الأستاذ إليه على عجل ..روعت المدينة بالحادث.. وتعطلت الذراع اليمنى عن العمل بسبب الطعنة الغادرة وتوقف نجيب محفوظ عن الكتابة وهو ما كان يؤلمه ويحزنه ..كانت الكتابة بالنسبة للرجل هي حياته ..رفقة بطول عمره ..حاضرة الليل والنهار ..لذلك ظل يتساءل : كيف له استرداد فعل الكتابة الذي يعني له الحياة ..يعني له الجرح الذي لا ينسى. كان عليه مهمة استرداد لياقته. يقول المفكر وعالم النفس د. يحيي الرخاوي الذي لازمه تلك الفترة صديقا ومعالجا : لا يوجد طبيب أعصاب في الدنيا يمكن أن يتصور أن العطب الذي لحق بالعصب المسؤول عن حركة يد شيخنا اليمني وأصابعه أن يتراجع أمام إصرار هذا الشيخ العظيم ورغبته في أن يواصل الحياة ..فعلها الشيخ بمثابرة معجزة. كيف عاد محفوظ للكتابة ؟ .. يقول د. الرخاوي : لقد عاد إليها بإرادة المستحيل. درب نفسه على التحريك الأولي للعضو المصاب ..مارس الشخبطة والحركة على الورق بيد شبه ميتة ..شخبط كل يوم سطرين ..زيدت إلى أربعة .. وكان يقول ضاحكا :انه مثل طفل يعمل واجبه المدرسي.. كأنه ارتد إلى ذلك الغلام في بين القصرين يشبك في كتفه حقيبة من قماش ويتوجه ناحية الكتاب .وكأنه يتبع الحروف خارجاً من الظلام إلى النور. يتدرب كل يوم على الكتابة محاولا التقاط حروف الأبجدية الأولى وهو يرى الحرف يتخلق بالمعنى على الورق ، يغيم أحيانا ، ويتجسد رائعاً أحيانا. مضت شهور وحين تأمل ما كتبه وجد أنه خط اسمه ..ثم كتب "سبحان الملك الوهاب" فانشرح صدره ..ثم كتب "رب اشرح لي صدري" ..ثم استوحى من الذاكرة صوت سيد درويش فكتب "خفيف الروح بيتعاجب" .. ثم ازدحمت الورقة بحب "سعد زغلول" .. و "مصطفى النحاس باشا" ..ثم كتب اسم ابنتيه "أم كلثوم" و "فاطمة" ..ثم خط بيسر "تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير" .. ثم عاد وكتب "الهدى هدى الله" ..ثم "رب اغفر لي" ..ثم وقع "نجيب محفوظ" . تصنع الإرادة الكتابة .. يتدفق الدم في العروق فيضيء الحرف المعنى .. وكتب المبدع بعد عجزه وبعد أن استرد بارادته حروفه الضائعة "أصداء السيرة الذاتية" و "أحلام فترة النقاهة" فاغتنت الحياة بالنافع والمجيد.