يسير هذان المفهومان جنبًا إلى جنب في الثقافة الشعبية، وغالبًا ما تُقدّم المروّة (المروءة) على القوّة، في المفاوضات والتعاملات بين الناس حينما يحصل بينهم خلاف. على أن المروءة لا تخلو من القوّة، والأمر نفسه بالنسبة للقوّة التي يجب أن تُرافقها المروءة دائمًا. ويُقصد بالمروءة في الثقافة الشعبية أمران، أحدهما الكلام الطيّب الإيجابي في التفاوض الذي يُقدّم النيّة الحسنة بذكر المحاسن وغض الطرف عن المساوئ. والأمر الآخر هو مايرافق الكلام الطيب من تنازل عن الحق وتسامح أمام الخطأ، لأن المرء الموصوف بالمروءة يبحث عن تبرير مقبول لأي زلّة أو خطأ ضدّه، ويتقبل العذر مباشرة. أمّا القوّة، فإنها كذلك تعني أمرين، أحدهما اتباع المسالك القانونية في أخذ الحق، مع الاستعداد النفسي والعقلي لذلك بإحضار الأدلة والبراهين والشهود، يرافق ذلك الصبر والجلد، من أجل الفوز بالقضية في النهاية، لأنه لن يضيع حق وراءه مطالب. والأمر الآخر، عدم السماح للمعتدي بتنفيذ اعتدائه باستخدام مايملكه المرء من قدرة بدنية مهما ضعفت، كما يقول المثل الشعبي" «مادون الحلق إلا اليدين». وهذان المعياران في التفاوض والتعامل مع الخلافات غير منفصلين، وأتذكّر أن بعض الشخصيات الاجتماعية ينجح دائمًا في المسائل التي يسعى فيها، لأن تقديره للموقف يجعله يُقرّر أي المعيارين يرجّح وبأيّهما يبدأ. كان أحد كبار السن، رحمه الله، ممن تربطني به قرابة، من الناس الذين عرفوا بحلّ المشكلات المعقدّة، ويلجأ إليه أقاربه وذووه حينما تُظلم عليهم الدنيا وتُصبح الحلول المطروحة أمامهم هي مشكلات بحد ذاتها. ينادى ب"الجد" لكبر سنّه ولقرابته النفسية والاجتماعية من الكثيرين. وذات مرّة، لجأت إليه امرأة تعرّضت للعنف من زوجها فقد ضربها وشتمها واتهمها في عرضها، والزوج يُنكر ذلك ويتّهم زوجته بأنها مصابة بالجنون وتتوهم ماتقوله، وراح يطلب من أهلها البحث لها عن علاج عقلي. وتبادل الطرفان التهم. وعلم الجدّ أنّ المرأة لاتريد سوى فراق هذا الزوج، فقال لها بثقة: «لن تبيت عيني حتى يتحقق لك مرادك». وذهب إلى والد الزوج وعمّه واصطحبهما معه إلى الزوج، وكان غاضبًا مما حصل، وقال له: تريد أن تجعلنا أضحوكة أمام العالم، فحتى لو كانت هذه المرأة مجنونة كما تقول، فخير لك فراقها. كيف تريد البقاء مع امرأة مجنونة قد تجلب لك ولأهلك ولربعك فضيحة تملأ أطرف الجزيرة (يقصد الجزيرة العربية)؟. وبالنسبة لخسائرك التي تقول إنك خسرتها، فسوف تأتيك، وأنا الضامن. وبعد ذلك، التفت إليه وسأله: «وش قلت يارجل؟»، فردّ بسرعة: «اللي تشوفه»، فقال: «اللي أشوفه إنك تسرّحها بإحسان، والله يعوّض كل واحد منكم». ولم ينهض من مجلسه حتى طلّقها الزوج، وأعاد له ما طلبه من مال، وحلّ بذلك مشكلة كان فيها إخوة المرأة يتربّصون بالزوج لضربه وربما قتله. وأذكر أن إحدى النساء كذلك طُلّقت من زوجها وقد أنجبت منه طفلين. فأراد الزوج أن يأخذ طفليه، وكان لديه زوجة غيرها، ولم ينفع معه النصح بأن يتركهما مع أمهما حتى يكبرا قليلا ويمكنه زيارتهما متى شاء. أراد أن يأخذ الطفلين لكي يكسر قلب أمهما. وكانت الأم لاتُطيقه، فقد كان بخيلا مُقتّرًا وشكاكًا لايمكن العيش معه بسلام. وأوهمهم ذات يوم أنه قادم لزيارة طفليه، وطلب أن يأخذهما معه ليذهب فيشتري لهما ألعاباً، ولكنه اختطفهما، ولم يعد بهما. وكادت الأم تنهار من هول الموقف، فاستنجدت بالجدّ، فما كان منه إلا أن أخذ معه ابنه ولحق بالزوج في قرية أخرى، لكنه لم ينجح في استعادة الطفلين من أبيهما. واضطر بعدها أن يُهدّد الأب بأنه سيلجأ إلى القضاء وأن قضية تلك المرأة هي قضيته وسيكون هو خصيمه، ومن شدّة الحنق قال له: «والله، ماهي من عادتنا أن نشتكي، لكن إن خلّى الله هالرأس، لأخليك إنت الشاكي». وفي المساء، طلب من إخوة المرأة، وكانوا ثلاثة، أن يذهبوا لاستعادة ابني أختهم، وقال لهم: «ما أنتم رجال لو قزت عين أختكم الليلة»، (قزت كلمة تعني تيبّس العين فلا تكاد يغمض جفناها، وتدل على أن الشخص لم ينم من شدة الكدر). فاحتزم الإخوة ببنادقهم، وتقدّمهم وهو أعزل، وحينما وصلوا المنزل، طرقوا الباب وكان الوقت متأخرًا في الليل، وناداه من بعيد: «جيناك بالمروّة وماوجّهتنا، والحين جيناك بالقوّة، وتراك مقدّينا مقدّينا.. وماقدّامك إلا أن تكسب حياتك»، فلما رأى الأمر بعينه: سلّمهم الطفلين في الحال. ومع ذلك، لم يفرح الجدّ بذلك، بل قال: «الله يخزي الشيطان، ياولدي، حدّيتنا على الصعب، لكن الله أمدى لك، بيننا وبينك شرع الله، رح واشتك وحنّا والمين». لم تكن القوّة معزولة عن المروءة حتى في أحلك المواقف وأصعبها، فهناك خيط رفيع يمسك العلاقة بين الناس حينما يختصمون، فالمروءة مقدّمة وهي الأساس. ولكن ثمة شخصيات تفهم المروءة على أنها نوع من الضعف أو الهزيمة؛ وحينها تكون القوّة مبرّرة، ولها المسوّغ المنطقي الذي يجعلها صالحة، وكما قال أبو الطيب: ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرٌّ كوضع السيف في موضع الندى.