يظل الخطاب السياسي عرضة للتحليل والتعاطي الإعلامي، وهو يأخذ معه المواقف بين القبول والرفض والتأييد والممانعة. إلا أن جزءاً من طبيعة هذا الخطاب - في مستوى التعاطي مع الدول الأخرى - أنه كثيرا ما أخفى أهدافه، وربما قدم إيحاءً مختلفا حول التعاطي مع قضايا خطيرة وكبيرة، وربما كذبته الوقائع فيما بعد أو ساهمت في تكريس حضوره. هل ستتكشف في مستقبل قريب أو بعيد ملامح أخرى في طبيعة العلاقات الأمريكية – الإيرانية، وهل هذا الصراع العلني هو نهاية المواقف وحتميتها، أم أن هناك أجندة خفية هي من يحرك خيوط اللعبة ويجعل حلقات الصراع العلنية ليست سوى مراحل تضليل سياسي حتى تظهر التحالفات الحقيقية؟! هناك خطاب وهناك حقائق. هناك ملامح عامة وهناك تفاصيل، قد تتفق ومسار الخطاب أو تضطرب أو تتناقض معه. وأخطر تلك الخطابات تلك التي تستهدف التضليل أو تعطيل تحديد المواقف، وقد تكون ملتبسة وهي تثير الكثير من التساؤلات حول الأجندات الخفية. الخطاب السياسي جزء من أداء سياسي، إلا أنه ليس دائما هو العنوان الدقيق لفهم توجهات ومواقف الدول وأحيانا ربما يصرف الأنظار عن أجندات قد تتقاطع مع ذلك الخطاب وقد تناقض توجهاته. منذ قرأت لعبة الأمم لمايلز كوبلاند، ومهما كانت الملاحظات أو ما يستدعي التوقف عند كتاب خرج إبان الحرب الباردة، وضمن حالة صراع لم يكن خافيا بين القوى الكبرى في منطقة الشرق الأوسط، ومهما قيل عن سيرة ضابط مخابرات سابق، إلا انه كشف عن مستوى تأثير الصراع الدولي في المنطقة على العديد من الأنظمة التي جاءت عبر الانقلابات العسكرية والانقلابات المضادة، ومسار الصراع وتحولاته وتأثيراته وتحالفاته في المنطقة بالتعاطي المباشر مع القوى الضالعة في مشهد التغيير آنذاك. الإعلام الغربي يتأثر بتسريبات مصادر تستهدف أحيانا إطلاق بالون اختبار، وأحيانا تكريس صور لموقف يخفي طبيعة الصراع، أو تهدف لإثارة قضية ما أو صرف النظر عن قضايا أخرى، أو خلق حالة من الإرباك في القدرة على تحديد مواقف تجاه القضايا التي تستهدفها تلك التسريبات. الأخطر من كل هذا هو ما يستقر في ذهن الرأي العام وحتى في مخابر صناعة القرار في الدول المستهدفة من تأثيرات ربما صنعتها آلة ترويج لمعلومات أو توجهات تكشف بعد حين - خاصة بعد الإفراج عن الوثائق الرسمية - عن أن هناك مواقف مناقضة وتوجهات لا تتفق مع ما استقر في الأذهان حينها من توجهات سياسية توحي بطبيعة الصراع ونوع التحالفات. ومما يستدعي هذا، ما كشفه مؤخرا غاري سيك مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق لشؤون الخليج في عهد الرئيس جيمي كارتر، وهو يناقض ما رُوج له بشكل واسع عن تنسيق أمريكي - عراقي في الحرب على إيران في عهد الرئيس صدام حسين في الثمانينيات من القرن المنصرم، بل يذهب لأبعد من هذا وهو أن الأمريكان حذروا إيران من هجوم سيشنه العراق، وقال بالحرف الواحد ( إذا فعلنا شيئا فهو العكس، لقد قمنا بإرسال أناس إليهم لإبلاغهم أن صدام يحشد قواته ..). وهذا ليس كشفا شاردا، إنه جزء من مسلسل علاقة كشفتها أثناء الحرب العراقية - الإيرانية صفقة أسلحة "إيران كونترا". بل إن من الشواهد على علاقة لها طبيعة أخرى بإيران غير المعلن والمتداول مازال يشكل غموضا تؤكد أسئلته الحقائق على أرض الواقع لا الخطاب السياسي المتداول. كم ترسخ في الوعي العام وفي أدبيات المحللين السياسيين من أن الحرب العراقية - الإيرانية هي بدافع أمريكي للعراق من اجل إجهاض حكومة الثورة الإسلامية .. كم ظل هذا الخطاب ساريا وطاغيا على أدبيات تتناول العلاقات الإيرانية - الأمريكية، والأمريكية - العراقية في تلك المرحلة. ولماذا طغت صورة وزير الدفاع الأمريكي في عهد رونالد ريغان السيد رامسفيلد في لقاء مع صدام حسين في منتصف الثمانينيات على ما عداها من أبعاد علاقة ظلت تناقض تلك الرؤية؟ ولماذا لم توضع تلك الرؤية ضمن أفق سياسي مرحلي يتعرض ليس لتغيير التحالفات، فلم تكن الولاياتالمتحدة يوما حليفا لعراق ما قبل الغزو، ولكنها تلعب بأوراق مرحلية ضمن معادلة إثخان العراق لا البحث عن مخرج لأزمة نظام في حرب استنزفت المنطقة لثمانية أعوام، فكانت كما قال طارق عزيز مؤخرا إنها الكارثة التي حلت بالعراق ولولاها لكان العراق اليوم سويسرا الشرق!! مازال هناك الكثير من الأسرار التي تحوط حرب عراق صدام مع إيران الثورة. ولم تكن الولاياتالمتحدة بعيدة عن محاولة قطف ثمار الثورة الإيرانية على الشاه، ولكنها واجهت صراعات الداخل برؤية غير واثقة، حتى تمكن إسلاميو إيران الثوريون من الاستيلاء عليها وإعلان الجمهورية الإسلامية. كما أن حرب صدام الأخرى دقت المسمار الأول في نعش النظام ومستقبل العراق العربي، ووضعت العراق بين فكي كماشة ورحى الاستنزاف حتى سقط ثمرة سهلة بيد الأمريكان وحلفائهم. الغزو العراقي للكويت لم تظهر بعد ولن تظهر قريبا أسراره التي مازالت خفاء . إعدام صدام حسين كان أيضا محاولة لطمر مرحلة كاملة في عمر العراق، وطمر أسرار حرب لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال رأس قيادة تلك الفاجعة العربية التي وضعت المنطقة في سكة قطار وتحولات سنظل نعيش آثارها أمدا غير منظور. المعلومات التي حصل عليها الأمريكان مازالت تعد من اخطر المعلومات السرية التي لا يمكن التفريط فيها أو محاولة تسريب شيء منها حتى يحين الوقت المناسب لتوظيفها. الإعلام العربي في معظمه يقرأ في أجندة التسريبات والخطاب السياسي الغربي باعتباره مؤشرا على تحول أو قراءة في صميم معطيات المواقف، بينما تحيل كثير من الوقائع فيما بعد إلى جناية الكذب السياسي عبر معلومات مزيفة أو مطلوب نشرها وترويجها مرحليا. مازالت أكبر كذبة سياسية مكشوفة في القرن الحادي والعشرين لم تأخذ حقها من المحاكمة بكل أنواعها الأخلاقية والقانونية والإنسانية. كذبة، سيظل العرب لزمن بعيد يجترون آثارها وويلاتها وما ترتب على تصديقها وتمريرها. كذبة أسلحة الدمار الشامل في عراق صدام حسين التي لا تنتظر سوى إشارة من القائد المهيب لتحرق المنطقة. كذبة أممية لعبت فيها الوكالة الدولية للطاقة الذرية أيضا دور لا يمكن إخفاؤه بالوكالة أو بالتضليل، ولم يتبين حتى اليوم أي مؤشر صغير على وجودها أو وجود آثار لها ناهيك عن معامل أو مختبرات لا يمكن إخفاؤها بعد أكثر من سبع سنوات على إسقاط النظام العراقي. هل تتذكرون كولن باول وزير الخارجية الأمريكية الأسبق وهو يعرض في مجلس الأمن خرائط وصور مواقع لأسلحة الدمار الشامل العراقية،؟ ألا تستحق هذه الكذبة الكبرى أن تحاكم عليها الإدارة الأمريكية السابقة؟ هذه الكذبة كيف تلقفناها وكيف جعلناها جزءا من تحليل خطاب سياسي لنقدم تراجعات مذهلة في مواقف مكنت الولاياتالمتحدةالأمريكية من إسقاط العراق العربي في قبضة مليشيات الطوائف والعشائر المتناحرة، وقدمته لإيران المعادية لأمريكا إعلاميا على طبق من ذهب حتى صار للنظام الإيراني اليد الطولى في تقرير مستقبل العراق؟! هل ستتكشف في مستقبل قريب أو بعيد ملامح أخرى في طبيعة العلاقات الأمريكية – الإيرانية، وهل هذا الصراع العلني هو نهاية المواقف وحتميتها، أم أن هناك أجندة خفية هي من يحرك خيوط اللعبة ويجعل حلقات الصراع العلنية ليست سوى مراحل تضليل سياسي حتى تظهر التحالفات الحقيقية؟!