كلما رأيت أو سمعت عن الخطوات الوئيدة والمتواضعة التي تسير عليها بعض مجالس المناطق في وقتنا الحاضر، وقارنتها بين الآمال والطموحات المنتظرة منها وبين الواقع الرتيب الذي تسير عليه.. خطرت ببالي وتذكرت على الفور، بل واستحضرت في مخيلتي الخطاب الجليل والشامل الذي ألقاه رائد الأمة الملك الموحد عبدالعزيز غفر الله له في الجلسة الافتتاحية لمجلس الشورى في دورته التي انعقدت في السابع من ربيع الأول 1349ه للهجرة. فقد قال يرحمه الله مخاطباً أعضاء المجلس في ذلك الوقت مستحثاً هممهم وعزائمهم على الانجاز والعطاء والابتكار: (ان أمامكم اليوم أعمالاً كثيرة من موازنة لدوائر الحكومة ونظم من أجل مشاريع عامة تتطلب جهوداً أكثر من جهود العام السابق، وان الأمة تنتظر منكم ما هو المأمول فيكم من الهمة وعدم اضاعة الوقت الثمين إلا بما فيه فائدة البلاد). وفي ثنايا خطابه الآنف الذكر أمام مجلس الشورى يقول طيب الله ثراه: (لقد أمرت ألا يسن نظام في البلاد ويجري العمل به قبل أن يعرض على مجلسكم فتنقحونه بمنتهى حرية الرأي على الشكل الذي تكون فيه الفائدة لهذه البلاد)، ويستحث عزائمهم في قوله: (أنتم في تلك الدائرة أحرار في سن كل نظام وإقرار العمل الذي ترونه موافقاً لصالح البلاد، على شرط ألا يكون مخالفاً للشريعة الإسلامية). ويختتم خطابه البليغ المؤثر قائلاً: (لا أحتاج في هذا الموقف أن أذكركم بأن هذا البلد يتطلب النظر فيما يحفظ حقوق أهله، وما يؤمن الراحة لحجاج بيت الله، ولذا فإنكم تتحملون مسؤولية عظيمة ازاء ما يعرض عليكم من النظم والمشاريع سواء كانت تتعلق بالبلاد، أو بوفود الحجاج من حيث اتخاذ النظم التي تحفظ راحتهم واطمئنانهم.. واسأل الله لكم التوفيق في سائر أعمالكم). هذا الخطاب العظيم الذي يعبر كل حرف فيه عن النصح الصادق النابع من القلب يحثهم به على الانجاز والعمل الدؤوب المثمر، كان والحق يقال البلسم الشافي والضوء الساطع الذي سار على هديه أعضاء مجلس الشورى في عهد المؤسس الباني طوال حياته، وعلى إثره صدرت نظم جديدة وسنت قوانين حازمة رسخت الوحدة الوطنية ووطدت دعائم الأمن والاستقرار والرخاء والاخاء؛ لأن غايتها وهدفها المصلحة المنشودة وصدرت بمباركة ومؤازرة ومتابعة الراحل العظيم. ومن هنا أعود إلى السطور الأولى في بداية حديثي هذا والموضوع الذي أود التطرق إليه في هذه المناسبة، وهو عن الرتابة التي تشبه الجمود فيما تخطوه بعض مجالس المناطق التي تفاءلنا بمقدمها خيراً ومازلنا وتأسست لتكون عوناً للمسئولين في حكومتنا الرشيدة بحيث تشكل قناة سالكة في استقبال وعرض آمال وهموم المواطنين في كل منطقة ومحافظة، وتبادل المشورة الصادقة والرأي المتبادل معهم بقلب مفتوح وباب مفتوح وتعاون مستمر جاد، وإرادة نزيهة هدفها وغايتها المصلحة العامة للوطن والمواطن بما يرفع شأنه ويعلي منزلته بين الأمم الحية الراقية، التي تسابق الزمن للوصول إلى أعلى الدرجات من أجل بناء الحاضر وتأمين المستقبل الواعد المأمون لأمتنا وأجيالنا القادمة، في عصر لا مكان فيه ولا مكانة للمتردد والجامد والضعيف، ولكن يا ترى هلا وضعنا خطاب أبي الأمة الملك المؤسس العظيم - الذي عرضنا خلاصته والموجه لمجلس الشورى قبل ثمانين عاماً - نصب أعيننا وجعلناه حاضراً بين يدي أعضاء مجالس المناطق يسيرون على ضوئه في القول والعمل في وقتنا الحاضر.. لنرى فائدة وصدقية وجودهم في خلاصة وثمرة جهودهم هم وإخوانهم وزملائهم أعضاء مجلس الشورى ممن وضعت فيهم الثقة السامية الكريمة من أجل العمل المتواصل المخلص البناء. ونتساءل مرة أخرى ما مهام مجالس المناطق إذا كنا ونحن نتابع على مدى أكثر من ستة عشر عاماً مضت مسيرة هذه المجالس ونلمس ندرة انعقادها إلا في فترات متباعدة، ولا نعلم حتى الآن مواعيدها وما علاقتها بالمواطن وقضاياه اليومية المتجددة؟ وما واجبات المواطن حيالها والتعاون معها في عرض ما يراه مناسباً وهادفاً على العضو الذي يمثل المنطقة أو المحافظة؟ وهل العضو ملزم أو مؤهل أو مخول بوضع اقتراحات المواطنين الذين يمثلهم بين يدي رئيس المجلس وأعضاء المجلس الآخرين لتقييم وتقويم أهمية هذه الواجبات ومناقشتها بفاعلية واخلاص من أجل سرعة تنفيذها والتجاوب معها، أو على الأقل الاحساس بها؟ وعلى سبيل المثال آتي هنا إلى ذكر عينات مختصرة تمثل بعض الظواهر السلبية التي تمخر في جسد المجتمع: مثل تفشي البطالة في البلاد والزحف الهائل للعمالة الوافدة على جميع مصادر الرزق والكسب في جميع الأعمال والمهن في المؤسسات والشركات والمحلات التجارية والخدمية كبيرها وصغيرها. ماذا عملت هذه المجالس حيال المواطن المؤهل العاطل الذي تضيق به سبل الحياة يوماً بعد يوم ولا يجد عملاً شاغراً يسترزق منه ويقيه غائلة الحاجة والعوز وسلبيات ومضاعفات البطالة؟ ومن أين له الحصول على قوت يومه وعمليات الاستقدام تسير على قدم وساق من البر والجو والبحر ومن الداخل أيضاً، تحت ذريعة تصحيح أوضاع المتخلفين والمتسللين والهاربين وتقنين وجودهم.. ولقد انتشرت في السنوات الأخيرة مكاتب الاستقدام بصورة لافتة في كل حي وزاوية في كل مدينة وقرية وهجرة وبالمراسلة والفاكس في طول البلاد وعرضها.. وبقراءة لاختصاصات المجالس كما وردت في فقرات نظام مجالس المناطق الصادر عام 1414ه هي أولاً: تحديد احتياج كل منطقة في خطط التنمية. وثانياً: تحديد المشروعات النافعة حسب أولوياتها. ثالثاً: دراسة المخططات التنظيمية لمدن وقرى المملكة ومتابعة ما يخص كل منطقة من برامج التنمية والموازنة وقد خولت المادة 29 مجالس المناطق بتكوين لجان خاصة من أعضائها تتوزع في لجان للشئون التعليمية والصحية والاجتماعية والاقتصادية ولجنة الخدمات والمرافق.. الخ. ونحن نحتار وهذه المسئوليات والواجبات من اختصاص أعضاء المجالس وكثير من الأعضاء غير متفرغ لها ويضطلع بمسئوليات وواجبات ووظائف أخرى بعيداً عن المجلس وواجباته ولا يعيرها إلا قليلاً من اهتمامه، ونتساءل ايضاً هل أعضاء مجالس المناطق من المتخصصين والمؤهلين للعمل في المجالات المسندة إليهم؟ أم أن منهم وكما هو الواقع أنصاف متعلمين وأشباه أميين، اضافة إلى أصحاب الحظوة والجاه، مع أن المطلوب وهذه المجالس تخطط للمستقبل وتمهد لأعمال تطويرية لمسايرة ركب التقدم أن يلحق بها فئة التكنوقراط المتخصصين والمؤهلين علمياً وعملياً في دراساتهم المهنية التخصصية، يضاف إليهم أصحاب الخبرة المتميزون في تجاربهم العملية والميدانية المثمرة. وقبل ان اختتم موضوعي هذا آتي إلى اعطاء لمحة عابرة وصورة مختصرة من الواقع، فأثناء زيارتي لاحدى المحافظات في احدى المناسبات وفي لقاء بطريق المصادفة مع أحد أعضاء هذه المجالس - ممن تتوافر فيهم بركة الوجه والطيبة المتناهية - سألته بكل براءة وثقة عن دوره في حمل آمال وهموم المواطنين الذين يمثلهم إلى اجتماعات المجلس، وهل نستطيع تزويده ببعض الأفكار؟ ووجدت موقفه متحفظاً إلى أبعد الحدود وطلب مني رقم الفاكس لنتفاهم في مثل هذه الأمور مستقبلاً، وهو في الحقيقة شبه معذور لأنه لا يريد أن يفرط بالمكاسب المادية والمعنوية المغرية التي يحصل عليها وتستمر وتتجدد غالباً كل أربعة أعوام بطريقة - أتوماتيكية - وله في من هو في مستواه، أو أكبر منه في المجالس الأخرى القدوة والمساواة حيث أخشى أن يكون الجميع أو بعضهم يطبقون تقريباً في عملهم المثل الصيني (لا أسمع لا أرى لا أتكلم) أو كما جاء في عنوان المسرحية المشهورة (شاهد ما شفش حاجة) إلى هنا اكتفي بهذا القدر المحدود من الايضاحات على أمل العودة مرة أخرى إلى موضوعات مختلفة تهم الوطن والمواطن.. وما نريد إلا الإصلاح.. والله من وراء القصد. * كاتب صحافي - مدير عام تربية وتعليم سابق