«أصرف السيارة يا عبد الحميد.» «لماذا يا دكتور عبد الرحمن؟» «احتاج البقاء في جناح المملكة، للتفكير في طريقة لتخفيف وطأة وقوف هذه الجموع في الطوابير.» علمنا بهذا الحوار لاحقا، أما حينها فقد انهمكنا في الاختلاط بهذه الجموع من البشر المزدحمة في طوابير لا نهاية لها كما يبدو! وتفوق في الواقع ما قرأناه عن أنها تستغرق من الزائر تسع إلى عشر ساعات لدخول السرادق السعودي في معرض شانغهاي الدولي 2010. كان بوسعنا طلب تصريح خاص لدخول المعرض، لكننا فضَّلنا اكتشاف هذا الكائن الذي يصفه الصينيون ب (الطابور قاهر الجبابرة) لكونه ولطوله يدمر كل طاقة على الاحتمال والصبر، ومع ذلك فإنهم يقهرونه بصبرهم العريق وشغفهم لاكتشاف الآخر، وجدنا أنفسنا بقلب ذلك الطابور اللانهائي، ما هي إلا ثوان حتى صارت الرغبة في الانسحاب من (سور الصين العظيم السعودي) مستحيلة لأن المئات التي في الأمام لا تضاهي تلك التي امتدت في دقائق خلفنا، وتلك الأعين الضيقة التي بدأت تتأمل باهتمام في ملامحنا الشرق أوسطية، التي شجعت (إيوووي/ أثينا) تلك المراهقة في الخامسة عشرة على محاولة اختراقها، ونهضت بخفة ظلها بدور المترجم بيننا وبين حلقة المهتمين التي توسعت حولنا وضاق عنها الطابور، حوار عجيب تغذيه حيوية الأعمار والاهتمامات المتفاوتة للواقفين، اسئلة تتقطع بمزيج من الضحكات الصاخبة والمفردات الإنجليزية المطموسة بالصينية والترجمة الفورية من google التي تتلقاها (إيوووي/ أثينا) على البلاك بيري ولغة الإشارة الجماعية التي اكتسحت أعظم معضلات التواصل. «ما الذي جاء بكم من آخر الأرض؟» «ونحن مسافرون قادمون من أبعد القرى، ونحلم ببلوغ الطرف الآخر للأرض مثلكم». «ما عمر حضارتكم؟ من أفضل شعرائكم؟ عماذا تغنون؟» طال الحوار بطول تلك الطوابير، والمدهش أن لا أحد منهم تذمر من الوقوف اللانهائي هنا في هذا الجو الخانق بالرطوبة والانفاس المفعمة بالروائح، كيف يتذمرون وهم قد أتوا قاصدين الوصول للجناح السعودي، فوالد أثينا قد تحمس لرغبتها في الحضور لشانغهاي، مسافراً معها بالقطار من مدينتهم البعيدة، تسع ساعات وتسع ساعات أخرى للعودة وعشر ساعات بينهما من الوقفة في هذا الطابورالمدمر لأعصابنا نحن المفتقدين للياقة الانضباطية! هذا الانضباط الصيني والرغبة في المعرفة تتجسد بشكل مذهل في زوج الشيوخ السبعيني هذا الذي جاء مسافراً ليومين من القرية البعيدة في ظلال سور الصين العظيم لهذه الوقفة، وتلك الشاعرة التي قدمت بوفدٍ من المراهقين عشاق الشعر من مدينتها، مثقفون وأناس بسطاء جاؤوا للوقفة هنا عشرات الساعات بتلك الكراسي الصغيرة من الخوص والتي ينصبونها ويسترخون عليها أينما هدَّهم التعب ومن ثم يواصلون. تهامست ورفيقتي: - «ما الذي يغريهم لزيارة الجناح السعودي، وليست غالبية الصينين مسلمة!» - «ربما لهدايا عبوات التمر، كما يحصل في المناسبات الأخرى.» همست رفيقتي ساخرةً بحسرة. كنا أقرب للتشاؤم والحسرة، ما الذي يوقفنا نحن الاثنتين هنا في هذا الطابور السعودي بينما هناك أجنحة أخرى تستحق المشاهدة وتثري المخيلة وتُجَدِّد رؤيتنا للعالم؟ الوطنية؟ لا أعتقد، فقد صدمتنا معارض أخرى شبيهة! ما الذي يمكن أن تقدمه المملكة أكثر مما قدمته معارض سابقة ركزت في الكتيبات التقليدية الدعائية مشفوعة بعبوات التمر والوجبات المجانية والمعروضات الفلكلورية المسلية! «أيعقل أن تقطع الأرض لأقصى شرقها لأجل رؤية الصور الفلكلورية المتواضعة التي نهرب منها في قنواتنا التليفزيونية الأولى والثانية؟!» «أما كان الأجدى لو صرفنا هذه الساعات على أجنحة ال 242 دولة، ونحن نحتاج التلاقح بالمزيد من تجارب الآخرين المتقدمة، فكيف يمكن للمملكة أن تنافس صندوق الموسيقى الذكي في جناح سنغافورة، ذلك المبني ما بعد الحداثي القائم من إعادة تدويرسبائك الألمنيوم والستيل التي تتعاضد لتشكيل أوركسترا من العناصر تنظم كونشرتو يجذب الجماهير لرحلة موسيقية فريدة، والطبول بقاعة نبض قلب سنغافورة، التي يدق عليها الجمهور عشوائياً لتكوين سيمفونية تُمَثِّل نبض المدينة التي تنفتح للآخر، أو المراوح الصغيرة التي قدمت لنا ما إن تفتحها حتى تعكس ما تسقطه البروجيكتورات وتحكي لك التغيرات التي خاضتها المدينة.. أو الفيديو كليب مدينة الكورس Chorus City في الجناح الكوري الذي يمزج العرض السينمائي الثلاثي الأبعاد مع العرض الحي على المسرح، تجار بمذهلة تعتمد مزج الصورة بالواقع؟!» «ثلاث ساعات أمام الجناح الكوري أو الياباني والدانمركي وهي الأكثر جودة.. لا طوابير أمام المعرض الإنجليزي أو الباكستاني.. الجناح الإيطالي سوق، يعرض كالعادة الفيراري.. لكن هذا السعودي فيررررري قووووود ...» تؤكد أثينا أنها قد أطلعت على معلومات عن معظم السرادقات الدولية. أسئلة جدوى كثيرة ألحَّت على تململنا الممتد لما يبدو لا نهاية له.. فضول ممزوج بغيرة على وطن تتخبط امكاناته ومقدراته في تقديمه للآخر، وتتحدَّى شكوكنا ثقة الفتاة في حذائها الرياضي تتقافز كطير على ساقين هدَّتهما الوقفة، ويُثَبِّتنا عزم الشيوخ المدفونين على مربعات كراسي الخوص الصغيرة بين الحشود حيث لا تبلغهم نسمة هواء، وقد تزودوا للوقفة بتلك الأطعمة الغريبة التي تتجسد في كيانٍ مُعَادِلٍ للأجساد المتزاحمة وتزيد الانتظار عسراً، تحوطك وجوه منحوتة من صبر أزلي تقضم حبات التفاح والمعجنات الغريبة ومستعدة لانتظارٍ أبدي! بين الفينة والأخرى ينفرج جمود الطابور، وتهب الجموع تتقافز متحركة للأمام مسافة نصف متر، ثم تعود للإختناق. «صديقي كان هنا منذ الساعة الخامسة صباحاً، كانت الطوابير أعظم، استغرق ما يزيد على العشر ساعات ليدخل، بعث لي رسالة بالبلاك بيري: ما رآه داخل الجناح كان مؤثرا خارج هذا العالم، يستحق الوقوف له». يروي عم أثينا. «جارنا كان هنا في أغسطس، الحر كان لا يطاق، والحشود متحفزة تتجمع خارج أرض المعارض ما إن تفتح البوابات حتى يبدأ الركض، يتسابقون للجناح السعودي، كان البعض يسقطون ويصابون في نضالهم للوصول.. ولكن جارنا ورغم إصابته في ركبته لم يندم للحظة على مغامرته، يتباهى بأنه قد حقق سفراً لم يحلم به..» يتحرَّك الطابور ويبدأ التقافز الكوميدي للجموع كزخَّة مُعَادِلَة لذلك المطر المتسلل من الفواصل بين المظلات، تقدمٌ متواضع لكنه كان كافيا لإشاعة جو من النشوة في خلايا التنين الصيني الصامد بطول كيلومترين أو ثلاثة أو أكثر ربما من الصعب التخمين بسبب الالتفاف الأبدي، بِرَك الماء تحت الأقدام جعلت التقدم أكثر تحدياً، حجارة مربعة وأكياس رمل ملقاة وسط البِرَك لتسهيل عبور المناطق الأكثر غرقاً، أشبه باجتياز لعقباتٍ في سباق طويل نحو المجهول، اللوحات على الرؤوس تُكَرِّر عبارت مكتوبة بانجليزية ركيكة ترسم ابتسامة على وجوهنا المرهقة: «الرجاء التزام التهذيب، لا تدافع، لا تحديات». «الرجاء تجنب الفوضى والأحاديث غير اللائقة»، ست ساعات من الانتظار مرَّتْ بين النقاشات الجادة والتساؤلات الطريفة مثل: «هل في بلاد السعوديين جبال؟» يشعرك السؤال بأن الجبال كانت ستعطي البلاد هيبة وشموخاً أو وصولاً لسماء ما، تتذكر الروايات التي تصف كفاح المزارعين الصينيين في ممرات جبلية ضيقة لا تكفي إلا لعبور رجل واحد.. «نحن شعب عاطفي، نأخذ أنفسنا بصرامة لكن قلوبنا من حرير، ولا ننسى الجميل، لقد رحمتنا هذه المظلات على رؤوسنا، والمراوح الكهربائية على جوانب المسارات من الحر والمطر..» تساؤلات وتعليقات وتبادل لخبرات تُحَفِّز المزيد من الفضول والمطر، لكنها كانت كافية لتجفيف زجاجات الماء التي في حقائب الظهر. ونبتت عربات بيع المثلجات على حافة المسارات، وتعلقت أثينا في الحواجز لتبلغ ذلك البائع وتساومه بمهارة وترجع بزجاجات ماء معبأ، صمَّمتْ أن تمنح كل منا زجاجة، أمام رفضنا زاد تصميمها: «بابا أوصاني بأن أوفر لكم الماء». الزجاجة بخمس رنمنبي (يوان) صيني، ولتعرف مدى هذا الكرم فإن تكلفة مشوار عشرات الكيلومترات بركشة بجرها سائق بدرَّاجة لا تزيد عن أثنين رنمنبي، فجأة سرت همهمة في الجماهير، وتبعت آلاف الأعين تلك الأشباح الثلاثة العابرة، ثلاثة سعوديين في ثيابهم التقليدية انبثقوا قادمين من جهة السرادق الذي لم تلح لنا معالمه بعد، كانت لاتزال تفصلنا عنه كيلومترات وآلاف الأجساد، «الملابس بتقاليدها هي المُعَبِّر عن تاريخ وثقافة الناس وهويتهم الحقيقية، قليلة هي الشعوب التي لا تزال تحيي زيها التقليدي..» «والدي هذا كان بضفيرة وثوب صيني، بابا، أين ذهبت ضفيرتك؟! «تضحك وهي تشد ضفيرة والدها المنقرضة. انفراجة أخرى وركض مرح مختلط ببكاء الاطفال في العربات، ثلاثة أمتار أخرى تقدمناها وانبعاث جديد لأملٍ بالفرج وبإمكانية بلوغ الغاية من تلك الوقفة، في مراحل من ذلك الانتظار القاهر لم يكن يتحرَّك غير شفرات المراوح على الرؤوس تدور وتكشط طبقات العرق والتعب وحرارة المطر الذي تحوَّل لبخار ينفث في الأجساد ويفتت العزائم، الشريط الرفيع عن يمين المسارات قام بدور مصطبة رفيعة طويلة يتسابق للجلوس عليها كبار السن والسيدات مثيرين موجات من الضحك، حين وبعد كلِّ زخَّةِ ركضٍ تتدافع المؤخرات لتجد لها موطئاً في ذلك الزحام، مثل لعبة الدوران حول الكراسي التي تتناقص، والتي يكفي تأخر بسيط لتخسر مقعدك وتخرج من الدورة، كان على الشيوخ الإسراع في تخمين اللحظة المفاجئة التي ينحبس فيها الطابور ويتعين فيها العثور على بقعة للجلوس على تلك المصطبة، لأن الإندفاع للجلوس يعني خسارة موقعك المتقدم في الطابور بينما التأخر يعني خسارة موطيء الجلوس بحيث تقضي الساعة القادمة متأرجحاً على ساقيك الخائرتين.. نفكر: لم يهمل المنظمون حتى هذه المصطبة الممتدة بطول الحواجز التي تفصل المسارات اللانهائية. زخة أخرة من الركض، وهذه المرة قهرنا عشرة أمتار أخرى، تتيقن أن تجربة ذلك الطابور بحدِّ ذاتها ما هي إلا اختبار لقوة الاحتمال ولتحفيز الصبر: «أوه أنظروا..» وارتفعت الأعين للأفق، للشريط الإعلاني الدائر حول قمة الجناح السعودي، علَّق والد أثينا: «هذه أكبر شاشة إعلان، تطفو في السماء يمكن للزوار رؤيتها من كل أرجاء مدينة المعارض الممتدة على مساحة خمسة كيلومترات..» تعلقت أعيننا بشريط الشاشة الرقمية تُعلن من بين ما تعلنه عن معرض نَبَط للفن التشكيلي المعاصر بالمملكة والذي تنظمه شركة كيوب آرت واُفتتح 10 سبتمبر ليرافق الإكسبو، وذلك في متحف الفن الحديث بشانغهاي Duolun Museum of Modern Art، ويطرح التجربة الفنية بالمملكة لعدد 23 فناناً يشاركون بمئة وثلاثين عملاً فنياً – وكان سبباً لتواجدنا في شنغهاي هذه الفترة. أخيراً وبعد تلك الكيلومترات الملتفة المتشابكة كافعوان لاح حائط الطين القصير من القرية النجدية، وزحفنا نحو خندق الماء المحيط بالجناح السعودي علي شكل مركب، وصافحنا شعارالاكسبو الكائن الأزرق الهلامي والذي ينتشر بشانغهاي مُلَخِّصاً مفهوم المعارض (مدينة أفضل لحياة أفضل، أو بالأصح بيئة أفضل لحياة مستقبلية أفضل)، وانبثقت ابتسامات الاعجاب وفلاشات الكاميرات تلاحق الرمز المائي الذي اكتسى هنا بالمشلح السعودي وغطاء الرأس الشماغ المرقط بالأحمر والمُتَوَّج بالعقال.. «ماذا يسمون هذه الملابس في السعودية؟» كرروا المفردات خلفنا، وتبارت الألسن في تكرار (ثوب، عقال، شماغ، مشلح) بصينية مضحكة، هم للآن لا يعرفون أننا من السعودية! انتعشت الجموع وتحرَّكت الأقدام تستقرئ ايقاع الطبول القادم من داخل المبنى. على بوابة المبنى الحلزوني الصاعد للسماء واجه حماستنا ذلك التحذير: «الفيلم المعروض قد يسبب دواراً واضطراباً للذين يعانون من مشاكل قلبية أو في التركيز». ومرة أخرى أثار هذا الاعلان استخفافنا، أو هو خوفنا من خيبة الأمل!؟ «الله يستر !!»..