هل أصبح السفر معادلاً تلازمياً لأي إجازة؟، هل يسافر البعض لأنه بالفعل يريد اكتساب فوائد السفر..أم تكيفاً مع ثقافة الانفلات وحسب؟. لماذا ينفلت شبابنا بالتحديد مع كل إجازة، وأحياناً حتى في إجازة آخر الأسبوع إن أمكنهم ذلك؟. بهذه الأسئلة نحاول أن نفتح ملف هذه الثقافة التي ولدت من رحم الطفرة الأولى، إذ لا يربطها أي «حبل سرة» بتلك الأسفار القديمة التي كانت تتم في الماضي.. حينما كان هدف السفر الأول البحث عن الرزق أو التجارة وما إلى ذلك. لكن قبل أن نخوض في أوراق هذا الملف..علينا أن نعترف أننا لا يمكن أن نلم بكامل تفاصيله، خاصة وأنه يتناول شرائح كبرى من أطياف المجتمع.. لكل منها غاياته ومتطلباته ورغباته واحتياجاته التي تدفعه نحو هذا الخيار؛ لذلك فإن كل ما سنفعله في هذا التحقيق.. هو أن نضع هذه الثقافة على طاولة البحث، على أمل أن نصل إلى شيء من التشخيص الذي يدلنا في النهاية على محاولة اجتراح الحلول، لتحاشي ما يأتي به الانفلات من سلبيات ليس على مستوى اقتصاديات الأسر، وتبديد المال، وإنما أيضاً حتى على بعض الأدبيات التي لا تزال محل اعتزازنا كمجتمع. إجازة »شنطتك والمطار« كشفت عن انعدام مظاهر »التنفيس« في المجتمع الحاجة إلى السفر أولاً يجب ألاّ يفهم من هذا الطرح أننا نريد أن نأخذ موقفاً من السفر من حيث هو حاجة، سواء للعلاج أو لزيادة المعارف واكتشاف عادات الشعوب الأخرى وغيرها، وبما في ذلك السفر للترفيه والاستجمام، ولكننا نأخذه هنا فقط على اعتبار أنه أكثر أدوات الانفلات وضوحاً.. فما الذي يدفع الكثيرين لهذا اللون من الانفلات، خاصة في مواسم الأعياد، عندما يغلقون أبوابهم دون العيد ويأخذونه معهم إلى أماكن أخرى، هل لأنهم عاجزون عن صناعة العيد في بيئاتهم؟، أم أن ثمة عوائق ما تجعلهم لا يشعرون به في أماكنهم، وهل الأماكن المجاورة بديلاً مجزياً عن ذلك؟، أم أنها من باب الرضا بالقليل؟. البرامج التليفزيونية التي سجلت في قاعات المغادرة في المطارات أو على البوابات الحدودية، والتقارير الصحفية التي تناولت الموضوع مع الشباب.. تكاد تجمع على إعادة الأسباب في قاسمها المشترك بأنها تحاول الفرار من السأم وحسب.. بمعنى أن هنالك تنامياً كبيراً في هذه المشاعر.. يقول البعض أنها دفعتهم أحيانا للاستدانة للهرب منها، والترويح عن أنفسهم بأي شكل، وفي أماكن لا تحتسب عليهم كل حركاتهم وسكناتهم، في حين أن البعض الآخر "خاصة على مستوى الأسر" يراها من زاوية أن كل أو معظم الناس تفعل هكذا، وهو ما أشعل نظرية (أنا لا أكذب ولكنني أتجمل) حينما يكون الإدعاء بأن الإجازة تمت في ربوع كان وشواطىء ملاقا، فيما هي خلف جسر البحرين!. غير أن ما يلفت الانتباه هو أن السفر في مثل هذه الحالات قد فقد مادته الأصلية، وتحول إلى شكل من أشكال المناورة، أو التمايز، وهذا ما يدخله بالنتيجة في دائرة الانفلات لأنه فقد موضوعيته. الشباب «موضع اتهام» حتى يثبت العكس غير صحيحة.. و«الوعي» أساس الاحتواء والتوجيه تجربة الرياض في العيد يتفق المتابعون لفعاليات مهرجان الرياض العاصمة في عيد الفطر للعام الجاري.. على أنها التجربة الأولى التي حققت الكثير من النضج في الرؤية للبرامج، واستمزاج الرغبات وتلون وتعدد النشاطات بما يستجيب لرغبات كل الفئات السنية تقريباً.. لكن مع هذا فقد أشارت التقارير الصحفية إلى الإزدحامات الكبيرة التي شهدها جسر الملك فهد مع أول أيام الإجازة، وكذلك الحال صالات المغادرة في المطارات، مما يشير إلى أن هنالك خللا في القناعات، أو شيئاً من عدم الثقة، أو أن ثمة هوة سحيقة لا تزال عصية على الردم مهما تطورت نشاطات المهرجانات بين الناس، وأساليب دعوتهم إلى هذه الفعاليات.. فأين تكمن العلة؟، هذا إذا ما صرفنا النظر تماما عن ذريعة الطقس؛ لأن معظم المدن التي تستقبل هؤلاء في الدول المجاورة هي بنفس مواصفات الأجواء المحلية إن لم تكن أكثر سوءا، وهذا ما يجعلنا نشك من أن الانفلات أصبح بذاته ثقافة تستحق التوقف والمناقشة. البعض لا يزال يعتقد أنه حتى لو كانت هنالك نوايا طيبة لتفعيل هذه النشاطات والرقي بها إلى مستوى الطموح والتطلعات.. إلاّ أن إيمانهم بأن قوة العوائق التي تتشبث بالألفة الآبائية ستكون أكبر من قدرة تلك النوايا للإعلان عن نفسها، وأن مجتمعنا فقد قدرته على التسامح منذ زمن بعيد، وصار إلى الرفض أميل بقطع النظر عن مراعاة تغير ظروف الحياة وأنماطها، من باب: (الباب اللي يجيك منه ريح سده واستريح) حتى ولو كانت هذه الريح مجرد نسمة منعشة لا تخلع بابا ولا تقطع شجرة.. بل ولا تهز غصنا، تبعاً لهذا فإن أحدا لن يكون قادراً على زحزحة تلك الرؤى التي تصاب بالرعب من الفرح أو إبداء مظاهره.. فيما يرى آخرون أن العلة تكمن في المكان والمكين بذريعة أن المجتمع، ونتيجة لإحكام ثقافة المنع تحول بفعل الضرورة إلى أعين ناقدة وشامتة.. تهتم بمراقبة الآخر أكثر مما تحضر هنا أو هناك لممارسة الفرح.. لذلك فالبعد أريح!. شبان في احد المقاهي يقضون إجازتهم بعيداً عن وطنهم برامج تفريغ طاقات الشباب وهنا علينا أن نعترف أن لدينا قصوراً في الرؤية نحو تفريغ طاقات الشباب، وهم من يشكل العمود الفقري لهذه الثقافة المتزايدة، والشباب من جانبهم بعثوا بالعديد من الرسائل إلينا إلى أن لديهم فائضا من الطاقات لا يعرفون أين ينفقونه، ولا يجدوا النشاطات المقنعة لاستيعابه.. بعثوا رسائلهم من خلال تلك الاستعراضات البهلوانية في الطرقات والشوارع والميادين في بعض مناسبات اليوم الوطني، وبعثوها عند انتصارات بعض فرقهم الرياضية، لكن قراءاتنا لتلك الرسائل كانت أقل من أن تستوعب مضامينها، وتجتهد في العمل على استيعابها، والنشاطات التي نظمتها المهرجانات السياحية ومهرجانات العيد وغيرها لم يشارك في صناعتها الشباب أنفسهم، وبالتالي لا يستطيع أحد أن يزعم أنه قادر على استيعاب كل تلك الطاقات المتفجرة بلعبة شد الحبل أو استعراض السيارات المتوحشة، أو المحاضرات، لا يمكن أن تقابل هذه الفورة من الطاقات التي تشكلت بثقافة الفضائيات والنت والبلاك بيري والفيس بوك وغيرها ببرامج لا تزال تقتات من مخيلة القرن الماضي.. في زمن ما عادت فيه الثقافات تنفصل عن بعضها إلا بكبسة زر، وهنا قد يقول أحدنا: ولكن الأماكن التي يذهبون إليها هي في المقابل لا تقدم لهم بديلاً أكثر من الإغماض عنهم أو بعضهم على الأقل حتى لا ندخل في تعميم التهم .. لدخول المرابع الليلية، وهذا صحيح.. لكن هذا أيضا نوع من الهروب. إذن..هنالك ثغرة.. قد تتجسد في حجم التضييق على الشباب، وإشعارهم بشكل أو بآخر بأنهم موضع اتهام إلى أن يثبت العكس، هنالك ثغرة يساهم فيها المجتمع كله بلا استثناء في دفع الشباب للانفلات متى سنحت الفرصة ، وهذه الثغرة قد لا تكون دائما عملا استفزازياً، وإنما يمكن أن تكون مجرد نظرة عامة أو ريبة أو شك.. يتم التعبير عنها بصور مختلفة.. تبدأ مما يدور من الأحاديث في كل المنابر حولهم، وكأنهم لا يعون ما يجري حولهم، ولا تنتهي إلا بوضعهم تحت عدسة المجهر في كل مناسبة وكأنه لا ينتظر منهم إلاّ الأسوأ. ثم وهذا هو الأهم غياب الحوارات المباشرة معهم وإشراكهم في رسم سياسات جديدة لإعادتهم كعضو طبيعي في الجسم الاجتماعي عوضاً عن التعامل معهم كقنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي لحظة. رعاية الشباب مع كل الاحترام للنشاط الذي تقوم به الرئاسة العامة لرعاية الشباب.. إلاّ أن الملاحظ أن جل عمل هذه المؤسسة الهامة التي أعتقد أنه آن الأوان إلى أن تكون وزارة لتضطلع فعلاً برعاية الشباب لا رعاية النشاط الرياضي وحسب..أن جل عملها هو الاهتمام بالشأن الرياضي، وتحديداً نشاط كرة القدم، وهذا النشاط لا يستوعب ولا يمكن بحال أن يستوعب كل الشباب بمختلف هواياتهم ورغباتهم وميولهم، هنالك أدوار مركبة وكبيرة، وميادين شاسعة تستطيع أن تتحرك من خلالها رعاية الشباب فيما لو حظيت بما تستحقه من الدعم، واستطاعت بالفعل أن تسترد أنديتها وأستاداتها الرياضية من سطوة كرة القدم لتتحول إلى مؤسسات شبابية قادرة على استقطاب كل المفردات الشبابية بمختلف مشاربها، وإطلاقها كقنوات راعية لهذه الفئات بمعنى الكلمة، وهنالك تجارب كثيرة يمكن الاستعانة بها في هذا السياق. لكن يبقى هنالك سؤال آخر..هل يكفي هذا للحد من ثقافة الانفلات؟، أو تركيب مكابح قادرة على إيقافها أو على الأقل الحد من سرعتها وتهورها؟. لا أظن أن أحدا يستطيع أن يجيب على هذا السؤال بشكل قاطع، لكن المؤكد أن أمامنا مساحات كافية وإمكانيات متاحة قد توفر لنا بعض الحلول.. خاصة وأن هذه الثقافة التي قلنا أو هكذا نعتقد أنها كانت وليدة الطفرة المالية، لا تزال تتزايد في أوساطنا رغم اختلاف الظروف الاقتصادية على وجه التحديد، وهذا مكمن الخطر عندما يصبح الانفلات لمجرد الانفلات في مقام الحاجة عند البعض والتي لا غنى له عنها، مما يجعلنا أمام معضلة حقيقية ما لم نتحرك ولو بالتوعية للحد منها، ووضعها في إطارها الطبيعي..الذي لا يستنزف الأسر، ولا يقود شبابنا إلى المخاطر أو مجتمعنا إلى استمراء التزييف.