حين يفرح الإنسان قد يرفع صوته بالغناء تعبيراً عن فرحته.. وحين يحزن قد يفعل ذلك تنفيساً عن همه.. أي شعور قوي صادق هو طاقة تبحث لها عن تفريغ. درسنا في النقد الأدبي (الشعر الغنائي) وهو الصادر من قلب الإنسان الصادق، وشعوره الذاتي لا تدفعه إليه مصلحة خارجية كالمديح ولا رغبة في استعراض القدرة مثل كثير من شعر الغزل الذي صاغه كثيرون غير عاشقين ولا صادقين مثل كثير وإبراهيم الموصلي والفرزدق نفسه لأن الشاعر العربي - في ذلك الزمان - يهمه اثبات قدرته في كل المجالات وخاصة الغزل الذي يبدأون به (عادة) مع البكاء على الأطلال حتى ولو لم يكن هناك أطلال وقد وضعنا كلمة عادة بين قوسين لنؤكد على ان ذلك مجرد تقليد عند كثيرين. أما الشعر الغنائي الذي يعبر من خلاله الشاعر عن مكنون ذاته وصميم مشاعره ويبوح بأعماق ما يختلج في فؤاده، فهو أقرب الأغراض للشعر الحقيقي.. هو ما يسميه النقاد (الشعر الخالص) فهو وسيلة وغاية. ومعظم شعراء العرب القدماء أكل المديح شعرهم وانحرف بمواهبهم، وهم لا يلامون وإنما الملوم النظام السائد الذي يعتبر الشاعر وسيلة دعاية ومطية شهرة ووزير إعلام ولسان قبيلة ويغدق عليه مقابل ذلك، مما جعل الشعر الغنائي قليلاً لا يبدعه الشاعر إلاّ في (الشديد القوي). والمتنبي سخر موهبته الجبارة في شعر المديح، ولكن بما ان شخصيته قوية واعتداده بنفسه بلا حدود فإننا نجد كثيراً من أبيات الشعر الغنائي داخل قصائده في المديح، وان حاول الاعتداد والشموخ. ومن الشعر الذي غناه المتنبي ترويحاً عن نفسه وتحريراً لعواطفه المكبوتة وتصويراً لأحاسيسه الداخلية قوله حين أصابته الحمى. «وزائرتي كأن بها حياء فليس تزور الا في الظلام بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي يضيق الجلد عن نفسي وعنها فتوسعه بأنواع السقام اذا ما فارقتني غسلتني كأنما عاكفان على حرام كأن الصبح يطردها فتجري مدامعها بأربعة سجام ويصدق وعدها والصدق شر إذا القاك في الكرب العظام أبنت الدهر عندي كل بنت فكيف وصلت انت من الزحام يقول لي الطبيب اكلت شيئاً وداؤك في شرابك والطعام وما في طبه اني جواد اضر بجسمه طول الجمام فامسك لا يطال له فيرعى ولا هو في العليق ولا اللجام وملني الفراش وكان جنبي يمل لقاءه في كل عام قليل عائدي سقم فؤادي كثير حاسدي صعب مرامي فإن أمرض فما مرض اصطباري وان احمم فما حم اعتزامي وان اسلم فما ابقى ولكن سلمت من الحمام إلى الحمام لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي شيئاً تتيمه عين ولا جيد اصخرة انا؟ مالي لا تحركني هذي المدام ولا هذي الاغاريد ماذا لقيت من الدنيا واعجبه اني بما أنا باك منه محسود؟! كفى بك داء ان ترى الموت شافيا وحسب المنايا ان يكن امانينا تمنيتها لما تمنيت ان ترى صديقا واعيا أو عدوا مداجيا حببتك قلبي قبل حبك من نأى وقد كان غداراً فكن أنت وافيا أقل اشتياقاً أيها القلب ربما رأيتك تصغي الود من ليس جازيا خلقت الوفا لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا