تقصّ أمي الورقة بطريقة متقنة ، رباعية الأضلاع ، كل ضلعين متساويان ، ضلعان قصيران وضلعان أطول بما يقارب الضعف . تضع عودا خفيفا يربط بين أعلى زاوية وأسفلها في المربع شبه المنحرف . عود خفيف آخر رقيق تربط طرفيه بخيط قوي ، فيتشكّل وتراً ، تلصقه بحيث ينتهي الخيط عند خط الوسط ، وقمته في رأس الزاوية العلوية . تدخل خيطا فيما بين الوتر والعود المستعرض .. تصنع ذيلا من ورق ملون يبدأ بنهاية الطرف عند الزاوية السفلى . هكذا صارت الطائرة الورقية جاهزة . تزينها برسومات عديدة ، أو تضع ورقا ملونا على أطراف الأضلاع فتبدو الطائرة مبهجة .. دائما أقف منبهرة تزقزق في داخلي عصافير الدهشة ، أرقبها وأبعث بأسئلتي الكثيرة .. تجيبني أحيانا وتنهرني أخرى .. أخي يركض بطائرته الورقية خارجاً أتبعه ، تتعالى وهو يقود دفتها من الخيط الذي بيده ، يشده أحيانا ويرخيه أحيانا .. أنظر لها وأسير وعيناي لها وأتلهف عليها ، تكابدني رغبة شديدة ، أن أمسك الخيط وأغازل من خلاله هذه الطائرة التي بدت كروح تشهق في الأعالي تلقط ذبذبات الريح ورائحة المطر وتغازل النجوم . أخي مستمتع لا يريد التنازل ولا لحظة عنها ، على وجهه يبدو شعور غريب بين الفرحة تتورد خداه ثم يزم شفتيه خوفاً من انقطاع الخيط وفقدان طائرته .. تحقن عينيّ الدموع فأمطرها على صدر أمي ، تنهرني قليلا وبها شيء من فرح خفي ، تخضع لرغبتي ، أو رغبتها المستترة وتصنع لي طائرة جميلة بورق برتقالي وذيل ملون من البرتقالي والأخضر والأحمر ، ترسم اسمي حروفا بيضاء على سطحها . أحببتها كثيرا ، ولازلت أراها مستقرة في مخيلتي .. ، ذهبت لأنافس أخي وأنا أحمل أول طائرة ورقية في حياتي وترتفع قامتي ذات الست سنوات عن الأرض بفرحة تجلجلني ، أشف حتى أكون روحاً تطير . أشعر بلذة غريبة تتمازج بدمي وترقص كذبذبات فرحة العيد والطيران مع الدولاب الذي يدفعه ذلك الرجل فنشق الريح صعودا هبوطا . انا أواجه الريح بطائرتي ، تساعدني وتتعاون بطريقة مذهلة ، تلف وجهها وتنزله .. تميل بجناحيها يمنة ويسرة . ترتفع وكأن لها عيناً كبيرة تغمزني بها. أنا أمد الخيط لها وهي تصعد ، أستشعرها ترسل لي ضحكات لذة المغامرة .. أشدها فتغير وجهتها وأرخي لها فترتفع شامخة .. كأنها تخبرني بما ترى في العلالي ، تتحدث عن غيمات جميلة بلون لازوردي. تذوب خجلًا من غزل الشمس ، وتحكي لي عن جنيات بثياب ملونة وشرائط كثيرة تتطاير في الهواء ، ولديهن جدات يحكين لهن حكايات لا تنتهي .. يعبرن من غيمة لأخرى ، وأفواج من الخراف البيض والوردية الناعمة الصوف ، وعلى متنها زهيرات من نرجس .. أمد الحبل أكثر وأكثر وأنتشي بطائرتي وذيلها الذي أصبحت أراه خيطا خفيفا جدا..حتى كاد يختفي ، يلتفت أخي ويقول لي جرّي خيط طائرتك ستغيب وينقطع منك الخيط ، لا أسمعه ،انا في قمة نشوتي إنما أسمع وشوشاتها وهي تهيب بي أن أمد لها الخيط أكثر، وأمد أكثر .. هذه التي سحرتني ، هذه التي تبعث بشهقة الفرح في جنباتي ، وهذه التي تبهرني .. وست سنواتي تطير معها وبها أكثر .. وتخف وتخف ، ثم ينقطع الخيط ، وكأن حبلًا من سعادة انقطع عني ، أبحث عن مكان لسقوطها ربما فوق شجرة ، ربما على سطح منزل او على عمود نور ، لاشيء .. أعود للبيت كئيبة أبكي طائرتي الجميلة وأبكي تلك الأخبار العلوية التي لم تكمل متعتي بها .. (يتبع)