لي صديقة عزيزة على نفسي ، وقد توفي أبوها قبل ثلاثة اشهر بعد معاناة طويلة من المرض وكبر السن ، وبعد وفاة والدها رأيت صديقتي لم تحزن كثيرا او تفجع بخبر الوفاة ووقع ايام العزاء عليها ، رغم أن اباها كان غاليا عندها وقريبا جدا الى نفسها ، بل كانت شديدة البأس ، او انها كذلك ارادت ان تتظاهر امام الناس ، فتجلدت وصمدت وكتمت حزنها ، بل انها لبست ملابس الوعاظ والفلاسفة ، فأصبحت تتحدث في كل مجلس عن الموت بأنه راحة للميت وفسحة للحي ، وان الحزن لامبرر له ولافائدة من ورائه ، وكان الناس من حولها معجبين بصبرها وقوة إيمانها ويثنون عليها خيرا .. ***** كل فاقد حزين لابد ان يعلم بأن فترة الضيق التي يشعر بها بسبب غياب من يحب ، إنما هي فترة محدودة ، يمر بها جميع الناس ويقاسون ويلاتها وصدمتها ، ولكن تقلب الايام كفيل بتخفيف المصاب ومسح الالام ، وهذه المعرفة والفهم يساعدان الحزين بأن يتدرج في حزنه حتى يسلو ، دون ان يتأثر او تتحطم نفسيته .. ****** ولذلك من المهم تقسيم مراحل الحزن وتدرجاته ، حتى يتسنى لمن عرفها ان يفهم ماذا سيحصل له من مراحل وتدرجات تعقب حادث الفقدان ، وبمعرفة هذه المراحل يشعر المكلوم بأن مايمر به الآن شيء طبيعي يحصل لكل الناس وانه ليس وحيدا في هذا الشعور ، وان التحسن والتعافي والسلوان هي خاتمة الاحزان متى أحسنا التعامل مع انفسنا ... ولقد اكتشف العلماء بان هذه المراحل الاربع التي تقوم النفس فيها بهذه الآليات - بطريقة فطرية - هدفها حمايتنا من طغيان الشعور بالالم ، وحماية العقل من هول المصيبة ، وبغير هذه الآليات يستحيل على الانسان ان يتحمل الالم عقليا او نفسيا او جسديا .. *** فبعد معرفة الانسان بخبر الموت يدخل في (مرحلة الانكار وعدم تصديق الخبر) ، ويجد صعوبة في تقبل الحقيقة لساعات او لايام ، يشعر حينها بعضهم بانه يحلم ، وبعضهم يتابع عمله اليومي دون اي تأثر واضح ، وبعضهم ينخرط في بكاء هستيري غير مصدق لما يحدث .. ****** ثم يدخل الإنسان بعد ذلك في (مرحلة الاحساس بفقدان الميت والشوق الى لقائه والحديث معه) ، والتفكير الدائم فيه ولو على حساب اهمال من هم حوله من أبناء او زوج او إخوة ، ويصيب النفس ضيق على كل من حولها ، وفي بعض الاحيان شعور بالمسؤولية والذنب والتقصير في حق الميت ، وتذكر المواقف والاحاديث معه ، فيدخل في دوامة الاضطراب في النوم وعدم الاكل ، والاعياء وعدم القدرة على التركيز ، وربما كوابيس وأحلام ليلية بالمتوفى .. ***** ثم يتلوها المرحلة الثالثة وهي (الاكتئاب المطبق) ، واللامبالاة والعجز والفوضى وعدم الحرص على النظافة والاناقة ، وكل هذا بسبب ان النفس وصلت لمرحلة اليأس من الانكار فقررت التسليم بالحقيقة رغم مرارتها ، وعرفت انها لن تستطيع ان تغير شيئا من اقدار الله المؤلمة التي لا يصلح معها الا الصبر والتسليم والاحتساب .. ***** بعد ذلك تأتي المرحلة الرابعة فتحاول النفس ان تندمج في الحياة من جديد ، فتنظم وترتب اولوياتها ، لتنخرط في الحياة من جديد ببطء ، وتحاول ان تجعل المصيبة على هامش حياتها ، فتتسلى بالعمل ، وتسلو بالمهام اليومية ، ولا يفسد عليها سير التعافي الا اوقات الاجتماعات الاسبوعية والسنوية والاعياد ، لكن سبحان الله سرعان ماينجبر الكسر ويُسلى الفقيد... ***** ومشكلة صديقتي انها دخلت في المرحلة الاولى الانكارية ، فأصبحت كالانسانة الحالمة التي تنتظر ان يوقظها أحد من نومها ليخبرها بواقعية الخبر ، وبالغت كثيرا في الكبت واطالة هذه المرحلة ، وعندما هل عليها شهر رمضان المبارك ، انتقلت الى المرحلة الثانية فاصبحت نفسها حساسة تبكي شوقا وتنام حزنا وتشتكي فراقا ، وكانت طامتها الكبرى انها انتقلت الى المرحلة الثالثة عندما حل يوم العيد وجاء المهنئون ليباركوا لها بالعيد ويترحموا على والدها الذي غاب عن اول عيد لهم بعد وفاته ، فأصابها الاكتئاب وحب الانعزال والهرب من الاجتماعات الاسرية ، واحست بأن الامر حتمي لا رجعة فيه وانه حان الوقت للتسليم وفقدان الامل ، فوالدها لن يدخل عليهم مرة اخرى من ذلك الباب ، ذلك زمن مضى ، وقدر قد وقع وحل ، وسبحان من جعل حياة الآمال الجديدة تبدأ بموت الامال القديمة ، وسبحان الحي الذي لا يموت ...