تنشأ الاتكالية لدى الشباب منذ الصغر، كنزعة داخلية تجعلهم يعتمدون على الآخرين في إنجاز مهامهم، ويتهربوا من مسؤلياتهم وواجباتهم، وكثيراً ما يرى الشخص الاتكالي نفسه مظلوماً، وأنه يتحمل أكثر من طاقته، فغالباً ما يكون أناني وعصبي وكثير الشكوى.. فهل أصبح شبابنا اتكالياً؟، ومن المسؤول عن إيجاد هذه الصفة لدى ابنائنا؟، وما مسؤلياتهم وواجباتهم في هذا المجتمع حتى لا نسمهم بالاتكالية؟، وهل الظروف الاقتصادية وقلة الفرص الوظيفية وكثرة متطلبات الحياة دور في ذلك؟، والإجابة عن هذه التساؤلات هي حصيلة التحقيق التالي: مفهوم الاتكالية وأعراضها يقول "م. سلمان الحجي" عضو المجلس البلدي بمحافظة الأحساء وأستاذ في الكلية التقنية، إن المقصود بالإتكالية عند الشباب، أن يعتمد الشاب وبشكل مستمر على غيرهم في توفير احتياجاته، أو حل مشاكله، أو يبحث بمن يقوم عن ما هو مطلوب منه، فلا يتحمل مسؤولية تذكر، ما يقتل روح المبادرة لديه، ويجعله غير منتج، ويعيش في أجواء الخمول والكسل والتبلد، بحيث يصل لمرحلة الشلل في التفكير أو رفضه القيام بأي مبادرة عملية. أما الاستاذ "عبدالمنعم الحسين" مدير النشاط بإدارة التربية والتعليم للبنات بمحافظة الأحساء، ومشرف في مكتب الندوة العالمية للشباب اللإسلامي، فيرى أن أهم أعراض الظاهرة، هي:الكسل والخمول واللامبالاة، التهرب من المسؤولية، عدم المشاركة في المناسبات العائلية والاجتماعية العامة، الأنانية والتمركز على الذات، والإلحاح على الأهل في زيادة المصروف وشراء المزيد من الاكسسورات والملابس، والتميع والتسكع وطلب المساعدة المستمرة من الوالدين في إنجاز أمورهم الخاصة من تجهيز مأكل، أو غسيل، أو ترتيب غرفته الخاصة. م. سلمان الحجي واقع المشكلة ويرى "م. الحجي" أن المشكلة هي أن هذه التصرفات تصدر ممن هم في كامل قوتهم العقلية والجسدية وهم الشباب، التي تعد أفضل مرحلة يستطيع الفرد فيها أن ينتج ويبدع وفي أقل وقت مقارنة بغيره من الكبار أو الصغار، وما يؤسف له أن بعض شبابنا يطلب تلك الخدمات ممن هم حوله، تحت مظلة شعارات التعاون والخدمة وقضاء الحوائج وتسهيل الأمور، وإن كانت تستلزم في بعض صورها الوقوع في محاذير شرعية وقانونية وإنسانية، ومن هذه السلوكيات في بيئتنا التعليمية أن لا يحل الطالب الواجب ويأخذ حل زميله، أو يبحث عن من يكتب له البحث العلمي، أو رسالة التخرج، أو يعتمد على تقرير طالب آخر في التدريب التعاوني، ولا يغير ما بداخله إلا معلوماته الخاصة، مع العلم أن بيئة التدريب قد تختلف كلياً عن ما هو مدون بالتقرير، ومن أخطر المواقف التي مرت عليّ في هذا الشأن أن أحد الطلبة طلب العون من طالب آخر يؤدي عنه الاختبار الشهري، أما في ساحتنا الاقتصادية فهناك صور لذلك، كأن يقبل الشاب أن يستفاد من اسمه كموظف لدى إدارة الشركة، مقابل مكآفاة شهرية رمزية، ويبقى جليس الدار مع ما يتمتع به من قدرات ومهارات، أو أن يتزوج بموظفة ويصبح هو عاطل عن العمل، بحيث تتحمل الزوجة كامل المسؤولة عن ميزانية الأسرة، أو أن يبقى الشاب العاطل عن العمل مستسلماً يعتمد على تمويل والده لنفقاته؛ لعدم تحقق طموحه في رغباته الوظيفية. أسباب الاتكالية ويشير "الحسين" إلى أن أسباب الاتكالية كثيرة، أهمها: التربية التي تقوم على الدلال والحماية الزائدة، والتنشئة الاجتماعية، والتغريب نحو الهوية والقيم، وضعف النماذج والقدوات التي يتمثلها، ما يجعله أسيراً إلى عالم الخيال واللاواقعية في مسلسلات الكرتون، كذلك غياب التأهيل التربوي للوالدين. بينما يرى "م. الحجي" أن من الأسباب أن الفرد يتربى في مناخ يرى من هم قدوة له وهما والداه هما اللذان يوفران له حاجاته تحت عنوان "الخوف والحب والترف ورفاهية العيش"، خصوصاً إذا كانت خادمة المنزل هي من تتحمل النصيب الأكبر في شؤون المنزل، أو أن السائق هو من يتحمل العبء الأوفر لتوفير احتياجات الأسرة، وما يؤديه ذلك من مشاكل خطيرة ترصدها وسائل الإعلام بين الحين والآخر. يوسف السبيعي ظاهرة سلبية أما الاستاذ "مازن الملا" - تربية خاصة -، فيقول: إن الإتكالية ظاهرة سلبية ناتجة عن انخفاض تقدير الذات لدى الفرد، ما يؤدي إلى انعدام المبادرة والاندفاعية، وذلك لعدم ثقته بنفسه، فالتربية في مجتمعنا "العربي" تساهم بشكل كبير على خلق الاتكالية لدى الفرد منذ الصغر، فالدلال الزائد لدى الوالدين تجاه الطفل يمحو لديه الاستقلالية الذاتية شيئاً فشيئاً، ما يجعله غير قادر على تحديد المهام التي يجب أن يقوم بها مستقبلاً، فتنشأ لديه الاتكالية وعدم الاستقلالية في آرائه وقراراته، والوالدان هما المنطلق الأساسي لذلك، ومن ثم يأتي المجتمع "البيئة الخارجية" معززة أو كابحة لتلك الصفة، جازماً بأن الغالبية من الشباب لدينا يتصف بالاتكالية، ولكن تختلف درجتها من فرد لآخر، وهنا تكمن أهمية المجتمع في مساعدة هؤلاء على التخلص من الاتكالية، وذلك عن طريق عمل دورات للشباب المقبلين على قطاع العمل بشتى مجالاته؛ لأن الاتكالية تؤثر بشكل كبير في أداء الشاب لمهامه الوظيفية، وكذلك تكون هناك توعية للوالدين بخطورة تلك الصفة على الطفل وكيفية اكتشافها ومعالجتها، مؤكداً ضرورة تحديد المسؤوليات في الأسرة، وأن لكل فرد مسؤوليات وأدوار يجب أن يقوم بها داخل الأسرة، فمن غير المعقول أن تكون المسؤوليات لدى الوالدين فقط، خاصة عندما يبلغ الابن مبلغ يعتمد عليه فيه. عبدالمنعم الحسين تدليل مفرط وتؤكد مديرة الثانوية العاشرة بالهفوف "نورة الربيع" أن معظم شبابنا للأسف يتميزون بل ويتنافسون على صفة الاتكالية، معتمدين اعتماداً كلياً على أسرهم، سواء غنية أو فقيرة، مشيرة إلى أن هذه الصفة ترجع أساساً على تربية الأسرة التي اعتبرها العامل الأساسي في ايجاد هذه الصفة وتعزيزها من تدليل مفرط، سواء في خدمة أنفسهم، أو خدمة والديهم، وكذلك اعتمادهم ايضاً على مكانة الوالدين عند الاخرين ك "الواسطة"، وأنهم غير قادرين على حل مشاكلهم الخاصة بهم؛ لذا أتمنى من الله سبحانه وتعالى ثم من الوالدين الحرص على توجية وتربية أبنائنا بالاعتماد على النفس، وأن تكون هناك تربية صارمة، ومبادئ ثابتة، وتوعية بين الوالدين وأبنائهم في كيفية الاعتماد على النفس، وعدم الاتكالية، وأن الحياة لن تدوم على ما يتمنون دائماً، وهناك صور كثيرة في تربية الرسول الكريم للأبناء المسلمين والقادة السابقين. «جيل المصالح» يبحث عن «موظفة» تكفيه مؤونة العيش من دون عمل! مسؤولية الأب أما "م. نبيل الوصيبعي" اخصائي زراعي، فيقول: للأسف أن شبابنا اتكالي (إلا ما رحم ربي)، وهم قلة على كل حال، وأسباب الاتكالية متنوعة لكن أبرزها في الزمن الحديث، هو انصراف الأب إلى السعي وراء العيش نهاراً، والتمتع بالاستراحات ليلاً من دون الالتفات إلى أن هناك ابن يحتاج إلى متابعة تربوية، كذلك وجود الرفاهية، حيث الأب يقوم بتوفير كل شي لأبنائه حتى لا يشعرون بنقص، بينما الصحيح هو جعلهم يشعرون بالمسؤولية، وضيق الحال كي ينبع فيه حس الطموح والكفاح، أيضاً وجود الخادمة والسواق، وهما مخدرا الشباب والفتيات عن العمل وتحمل المسؤولية، ووجود التقنية الحديثة كالانترنت جمدت كثيرا من الشباب في أماكنهم. دورالأسرة ويرى "م. الحجي" أن العلاج يأتي من الأسرة في تدريب أولادهم على تحمل المسؤولية في كل مرحلة عمرية بما يناسبها، وغرس قيم وسلوكيات أداء الطفل احتياجاته بنفسه، وتنمية حس المسؤولية ضمن برامج تطوير المناهج من قبل وزارة التربية والتعليم، ولا نغفل المنابر الثقافية والإعلامية المختلفة، إلى جانب إطلاع شبابنا على مشروعات حضارية، ونماذج مشرفة في العمل والإبداع. المسؤولية الاجتماعية ودعا "الحسين" إلى تنمية المسؤولية الاجتماعية لدى الشباب كواحد من أهم الحلول للمشكلة، من خلال تحمل المسؤولية في منازلهم، والمشاركة في المحافظة على المقدرات الوطنية، وإنجاز أعمالهم بأنفسهم، والمشاركة الإيجابية داخل العائلة بالتوصيل والشراء ومساعدة الأهل، والمبادرة في تقديم الدعم للأطفال والكبار في العائلة، إلى جانب عرض المساعدة على الأب والأم في إنجاز أعمالهم، والتفكير المستمر في الاعتماد على الذات، والبحث عن فرص لتحقيق دخل إضافي مشروعة، والمشاركة الفاعلة داخل الحي وجماعة المسجد، إضافة إلى مساعدة الجمعيات الخيرية في أعمال تطوعية، واستغلال الوقت في تقديم ممارسات إيجابية من رياضة وثقافة وتدريب وتعليم وكسب مهارات جديدة. شبان يتنازلون عن أسمائهم ل «وظائف السعودة» مقابل رواتب مخجلة وقال: إن السؤال الأهم هو: كيف نحقق تلك المسؤولية في أولادنا؟، ويجيب "الحسين" من خلال بناء الشخصية القوية المسلحة بالآداب الشرعية والأخلاق الإسلامية، وتشجيع الطفل على القيام بشؤون نفسه بذاته منذ نعومة أظفاره، وإيكال بعض الأعمال إليه بالتدريج، وإعطائه مصروفاً اعتيادياً، وفي حال طلب الزيادة نعطيه بمقابل أعمال إضافية، إلى جانب نطلب منه المشاركة في أعمال تساعده على بناء رؤية ورسالة خاصة به، وأهداف يسعى إلى تحقيقها، ونشجعه نثني عليه، ونعزز السلوك الإيجابي لديه. استقلالية الشخصية.. والقرار وتقول "فاطمة العبيد" - تربوية - إنه في الوقت الذي يوجد فيه شباب اتكاليون، وهم كثرة، فإن هناك أيضاً مجموعة كبيرة من الشباب المثابر والطموح المبدع والواثق من نفسه، وحتى نكون منصفين يجب ألا نلقي اللوم على الشاب الاتكلالي؛ لأنه توجد أسباب كثيرة ساهمت في إيجاد هذه الصفة لديه، بدءاً بالاسرة التي ألغت شخصيته منذ الصغر، خصوصاً في فترة المراهقة التي تتبلور فيها ملامح الشخصية، وانتهاء بالاعتماد على العمالة الوافدة، ومن هنا أرى أنه لابد من إعادة النظر في العملية التربوية بالكامل، واعتبار الأبناء شخصيات مستقلة، واعطائهم مساحة لاتخاذ القرار، وتحمل نتائجه من دون استهزاء أو سخريه مع ملاحظة توجيههم وارشادهم، ولنا في المجتمعات الغربية تجربة مميزة، حيث يربون أولادهم على الاستقلالية منذ سن مبكرة بالمساهمة في خدمة المجتمع، من خلال بعض الأعمال الخيرية، كذلك العمل في فترات الصيف والعطلات. نقطة الإنطلاق ويشير "يوسف السبيعي" رئيس قسم الخدمات المساندة ببريد محافظة الأحساء إلى أن صفة الاتكالية منشأها الصغر، فالأبوان يتحملان الجزء الأول منها، والمدرسة الجزء الآخر، وعلى سبيل المثال، الطفل عند نطقه أو عند تعلم الإشارة بإصبعه يتولاه الوالدان بتلبية كل ما تطلبه شفتاه، أو يؤشر عليه بإصبعه، من دون محاولة إدراكه أن يكون ذلك ممكنا أو لا، وما إن تتولاه المدرسة إلا وتكون قناة ري لهذه الصفة، وبدورها تأتي الطلبات تلو الطلبات لتجد الأسرة مستمرة في تلبية احتياج ابنها الطالب من دون المحاولة في وقف نمو الإتكالية لديه، وذلك بتعليمه وتبصيره؛ لإحداث نقطة الانطلاق على الاعتماد على ذاته، وما يملكه من مواهب تبعده عن اتكاليته لوالديه أو أسرته.