تحدثت في الاسبوع الماضي عن رمضان في القرية، وكان حديثا موجزا ومقتصرا على ما شهدت، ونسيت أن أشير إلى المشروبات التي تشهدها مائدة الافطار في رمضان والمكونة من التمر والقهوة والماء، فتبريد الماء يتم بتعريض القرب الجلدية إلى الهواء منذ الصباح الباكر، أما ما يقابل عصير التوت وغيره مما يتصدر مائدة الافطار اليوم فيقتصر على عصير الليمون الطازج، مضافا اليه قليل من الملح لتخفيف حدة حموضة الليمون، عند ذوي الدخل المحدود، اما المرفهون فإنهم يضعون قليلا من السكر بدلا من الملح، وبدرجة لا تجاوز تخفيف حدة الحموضة، ويتم حفظ الليمون طازجا بدفنه في الأرض الندية بفائض القرب من الماء ، أو ما يتسرب منها عند عدم إحكام وكائها، وكان الصبية يجنون زهو البلح قبل تحوله إلى رطب ويدفنونه في الرمضاء، وخلال ساعة يتحول إلى رطب بفعل حرارة التربة المعرضة لشمس القيظ. وآخر ما شهدت من أيام عيد الفطر في قريتنا أم ذيان من خيف بني سالم، كان قبل ستين عاما، وكانت البهجة تسبق العيد، ففي العيد تشترى الاقمشة لكل أفراد العائلة، ويقوم النسوة بخياطتها كما اشرنا من قبل، ويبادر أهل الخير بمساعدة الفقراء والأيتام ليشهدوا العيد كأقرانهم بملابسهم الجديدة، وكان خطباء العيد يحرصون على ترديد عبارة "ليس العيد من لبس الجديد" تعزية للمحرومين. العيد جانا وحنا في البحر ماشين بالهون لا عند جدة ولا ينبع ولا عند المباني وكان من دواعي البهجة الانفساح في ولائم العيد، وإشباع الناس بالارز واللحم طوال ايام العيد الثلاثة، فلا يتمكن كل الناس من شراء اللحم يوم الجمعة، اليوم الذي تعود الناس فيه وجبة خاصة مدعومة باللحم، إما لفقرهم وإما مراعاة لمشاعر جيرانهم الذين لا يقدرون على توفير اللحم لأسرهم، فقد كان عبق اللحم يسري بين المنازل القريبة والبعيدة بفعل قوة حاسة الشم. وكانت مظاهر الاحتفال بالعيد بهجة أخرى إذ يتنافس الرماة في اعداد البارود للاستعراض في ايام العيد، حين يتجمعون بناديهم، فيهبون لاستقبال زوارهم باطلاق النار المجردة من الرصاص في تتابع دقيق ينشد التفوق في الرد على رماة القادمين، ومن ثم تنصب الأهداف للرماية للتصويب من مسافة بعيدة، وقد تكون الأهداف زهو البلح منظوما في عقد للتسابق في إصابته على التوالي. لم يكن إعداد البارود بالأمر الصعب، فهم يجلبون ملح البارود من الاسواق مادة تشبه ملح الطعام تميل إلى الصفرة حادة المذاق بلذعة لا تطاق، ثم تخلط بالفحم والكبريت ويعطش بالماء فتتحول إلى ذرات سوداء. وكان الصبية يعدون من الانابيب على غرار البنادق وفي ذلك خطورة إما من عدم صلابة الأنابيب وزيادة حشوها بالبارود، وإما لضعف التثبيت على الخشب. أما الاعلان عن العيد عند رؤية الهلال قبل اكتمال الشهر ثلاثين يوما، فيبدأ الاعلان عن العيد من المدينةالمنورة، حيث تقوم الإمارة بارسال سيارة بها من يخبر الناس بالعيد باطلاق النار على امتداد الطريق ومن يتلقى الخبر يطلق النار فيعم الخبر البلاد خلال وقت قصير، وكان يقوم بهذه المهمة ممثلو الإمارة في البلدات التي بها مركز للبرقيات. في صباح العيد الباكر يخرج الناس بملابسهم الجديدة إلى مصلى العيد في ساحة واسعة أكثر ما تكون في مجرى السيل من الوادي لنظافتها وليونة تربتها ووجود مشارف حولها يشهد النساء الصلاة والابتهاج بالعيد، وبعد انقضاء الصلاة يعانق الناس بعضهم بعضا، ثم يعودون إلى منازلهم ، ويباشر معدو وجبة الغداء أول ايام العيد اعدادهم الوجبة، ويتجمع الأطفال هناك حيث يقومون بشي ما يدفع إليهم من الذبيحة مثل الكلى والطحال والأمعاء وغير ذلك. ويتجول الناس قبل ذلك لمعايدة أقاربهم، او الاحتفال باستقبال المعايدين، أما وجبة الغدا فالرجال والصبية يتجمعون في منتدى الحي ساعة تقديم الطعام، والعائلات يرسل لهم في منازلهم وقد يتجمع النسوة في أحد المنازل ومن يتعذر حضوره يرسل إليه غذاءه، وتتم الوجبات وفق برنامج محدد لمن لديه عيد، ووفق عدد الأسر وكفايتهم، وليس للعيد مراسم معينة تحدد الحضور كما هو الحال في تكريم الضيوف، وإنما يراعى في العيد طبيعة البهجة والرحمة. وأذكر ان الناس يخشون التبذير مثلما يخشون ألا يفي الطعام بحاجة المستفيدين، فما فاض عن ذلك عمدوا إلى تجفيفه بتعريضه للشمس واعادة استخدامه فيما بعد، مثلما نحفظ اليوم قليلا من الفائض في الثلاجات والبرادات ونلقي كثيرا من الفائض في براميل الزبالة من دون وازع. لا أذكر أنني تلقيت عيدية غير شيء من الحمص والحلوى عند بعض السيدات اللاتي يحتفظن بذلك لمثل هذه الأيام، أو زيارة أمهات بأطفالهن إلى هؤلاء السيدات. في العشر الأواخر من رمضان ينشغل النساء بخياطة ملابس الأسرة، وأكثر ملابسهن عناية تطريز احجال سراويلهن التي تنتهي عند الكعبين بحجل مطرز يشبه السراويل العمانية النسائية التقليدية التي نرى اليوم في المناسبات، ويلي السراويل اهتماما "القناع" وهو الخمار أو ما يقوم مقام العباءة، وهو رداء أسود يطرز بالرصاص الدقاق: دادى دويدي داد جوّد وصاتى هات لي رصاص جلال ما هو دقيسي دادي دويدي داد جوّد وصاتي هات لي رصاص جلال مال المخاويل ويكون التطريز من قنه الرأس نزولا مع الظهر حتى منتهاه ثم يأخذ شكلا أفقيا من أعلى الردفين حتى نهاية القناع عرضا، ويسمى هذا التطريز مخاويل، وهناك تطريز للصدريات: يا ابو صدرية على الصدر شبكي واقوم واقف وانثني واقعد ابكي على ان نساء البادية هناك يبدعن في تطريز البراقع وتشكيلها بالتل والرصاص والودع والنقود. والبنات يطرزن أحزمة يصل عرضها إلى سنتمترات مطرز بالرصاص، وهن من بلغن سن الزواج. ومثلما يهتم الرجال والشباب والصبية بحلاقة الشعر قبيل العيد نجد النساء يبدعن في نقوش الحناء على ايديهن واقدامهن. ولأهمية الفرحة في العيد نجد كثيرا من الرجال والنساء يوقفون بعض نخلهم للانفاق على الافطار في المساجد والمساكين، كسوة وعطاء في رمضان. كما أن النساء الفقيرات يقمن بتجهيز بعض الصناعات المحلية من الحصر والمراوح والزنابيل لبيعها وتأمين حاجة أطفالهن في العيد. وكان من منغصات بهجة العيد غياب بعض أفراد الأسرة، وبخاصة عميدها، الذي يؤمن للأسرة حاجاتها ويوفر ذبيحة العيد، ويسعد أفراد الأسرة بوجوده لا أن ينتظروا من يقوم بسد حاجاتهم، فالرجال الذين يعملون بعيدا تعوقهم المواصلات أو ضيق ذات اليد، والذين يعملون في البحر يتعرضون لكثير من مشاكله، والشاعر عمران الحيدري شيخ قريتي"عين علي" و"عين شعثاء"من قرى ينبع النخل، غادرها بحرا لأداء فريضة الحج، فتقاذفت الأمواج المركب الذي كان يستقله، فلا هو الذي أدرك الحج، ولا بالذي سعد بالعيد بين أهله، ولا أشق على الانسان من أن يأتيه العيد بعيدا عن حيه ومجلسه واصدقائه فقال مخاطبا صديقا كان معه على متن المركب يدعى الحساني: العيد جانا وحنا في البحر ماشين بالهون لا عند جدة ولا ينبع ولا عند المباني ولا عند خطبة ولا قرية ولا حي يصلون ولا عندنا من حكال العيد شيّ يا الحساني واقول يا ليتني حجيت مع اللي يحجون واكمل الحج بالعمرة وبالركن اليماني ولا تخلفت يوم الناس في الموقف يلبّون في وسط باحة و شعبان ونومي ما هناني أثر البحر حالته حالة بخبر اللي يعرفون الريْس يلعب بنا لوما رياستنا ذهان بالعون ما اسبهم والله ما هم من يسبون مير اتوجّد على الاوطان واكمال المعاني والشاهد هنا هو أهمية العيد عند أهل القرية، وأهمية التحضير له. وعيد الأضحى الذي غاب عنه الشاعر أخف وطأة من الغياب عن عيد الفطر، حيث يجتمع فيه الناس بقراهم ويحتفلون بالعيد، أما عيد الاضحى فلا يبقى في القرية غير النساء والصبية وكبار السن وأهل الأعمال الذين لا يحرصون على الاستفادة من موسم الحج وأعماله ومجالات التكسب فيه. هذا شيء من أشياء عن العيد في قرانا قديما، وما أكثر ما نسيت أو جهلت أو صرفت النظر عنه، فمعذرة وتحية وكل عيد وأنتم بخير، وأقول للأخ الذي طلب نشر قصيدة الحازمي عليه أن يرجع لها في كتابي "مرويات ابن قابل"؛ لأن نشرها في الصحف كاملة قد يتعذر لطولها واغراق بعض أبياتها في الغزل.