عام 1938 هو تاريخ اكتشاف بئر الخير, وهو عام الزلزال الذي ضرب اقتصاداً متقشفاً محدود الموارد فتحولنا إلى دولة مصدرة للنفط, وبين ذلك التاريخ والوقت الحاضر ما يربو على السبعين عاما وأجيال متلاحقة من المفترض أنها استوعبت الطفرة وتبعاتها, وامتصت الصدمات الثقافية التي تلاحقت أثر انفتاحاتنا على العالم, وبالتالي هل نستطيع أن نقول بأننا بتنا نمتلك ركاما حضاريا يجعلنا نغادر مواقع محدثي النعمة أو أثرياء الطفرة إلى مواقع أكثر تقدما وانجازا في المسيرة الحضارية العالمية ؟ لكن مع الأسف على مستوى معين مازالت علاقتنا مع العالم الخارجي مضطربة وملتبسة وعاجزة عن التعامل بمرونة وتلقائية ما برحنا نراوح في نفس تلك الأماكن والديار ونقوم بنفس الأدوار التي اعتدنا عام أثر الآخر. ففي كل صيف مابرحنا نختار أن نعلن عن حضورنا في العواصم العالمية بطريقة فجة وعبر استعراض السيارات الفخمة والمقتنيات الاستهلاكية والفحولة الغرائزية الخالية من شهامة ونبل العربي. نصر على استعراضنا السنوي في العواصم الأوربية والشواطئ الفرنسية عندما نحول أجسادنا المكتنزة إلى فاترينات نعرض فوقها كل ما استطعنا ابتياعه واقتناءه من خلال قوة شرائية ناتجة عن اقتصاد ريعي ليس لنا دور فيه وليس اقتصادا قويا وقائما على الصناعات التحويلية أوالاختراع والإبداع, وما برحنا نتناثر على المقاهي مصطحبين مكبوتنا الاجتماعي وطريقتنا - غير اللائقة - في التعامل مع النساء ومخاتلتهن والتربص بهن, بينما نساؤنا على طاولة مجاورة يتربصن بلحوم المارات وتاريخهن وسلالتهن الأسرية, وبالتأكيد ستمر بهذا المشهد سيدة يابانية بخجل ودماثة وفي حقيبتها بطاقات بنكية تفوق أصفارها جميع رواد المقهى, وترتدي ساعة ثمنها يفوق جميع استعراض الحقائب والمجوهرات المندلقة على الطاولات متورطة بالفجاجة خالية من الذوق, تلك اليابانية التي يطوقها الخجل والسمت قادمة من بلد يملأ العالم بالاختراعات والتقنية والاقتصاد القوي والرقي السلوكي والحضاري, وذاكرة متفائلة لنهضة كبرى بدأت عام 1945 أي بعد اكتشاف بئر الخير بسنوات , وبالتأكيد أنها قد زارت قبل أن تمر بالمقهى جميع متاحف المكان وآثاره وتعرفت على أبرز مفكريه ومبدعية الذين أثروا المسيرة الإنسانية, فأينهم في الميزان الحضاري وأين نحن؟ وفي نفس السياق يصر مطار الرياض على استقبالنا دوما بمشهد مؤلم ومستفز, يندرج في نفس الاشكالية الحضارية التي تتداخل مع علاقتنا مع الآخر, ففي أحد الصفوف عند استلام الحقائب اندفع أحد القادمين بفجاجة وعصبية وخلفه فريق من النساء والأطفال وتجاوز كل الصف ووقف في الأمام والتفت على الذي أخذ دوره (للمفارقة كان يابانيا) وقال له : بانجليزية سلسة عذرا فالطوابير طويلة ولاأستطيع الانتظار, هو يعرف ويأسف بأنه قام بارتكاب خطأ سلوكي كبير ولكنه لا يعرف البديل أو كيف يحل المعضلة فهو يرجع إلى الكود السلوكي المتداول والذي يعرفه من الزمن الجاهلي عندما قال الشاعر عمرو بن أم كلثوم ونشرب إذا ما وردنا الماء صفوا ... ويشرب غيرنا كدرا وطينا هناك احتقان تاريخي لتيار الزمن فهو متوقف لا يمر ونبقى نراوح في نفس تلك الصحارى... مهما بدلنا الأمكنة أو غيرنا المواقع فما أطيب المصطاف والمتربعا. لم نعد محدثي نعمة بل نحن قدماء نعمة, ولكن اخترنا النعمة بشقها البدائي حيث القطعان والماشية هما مصدر القوة والنفوذ الوحيدان لنا, مع إرغامنا وتهميشنا للآخر الذي يشاركنا المكان عندما نشرب الماء صفوا على ضفاف الغدران.. ويشرب الآخر كدرا وطينا.