قد يستشكل على بعضنا ما يراه من كون التقليدية ترفع صوتها عاليا في الأزمات والمآسي التي يواجهها بعض المسلمين ؛ بحيث يظهر سدنتها ومريدو سدنتها ، فضلًا عن أتباعها من البسطاء ، بصورة المُتوجّع والمتفجّع على إهدار حقوق الإنسان يؤكد كثير من الباحثين ، وخاصة في مجال الدراسات الأنثروبولوجية ، أن لدى الإنسان ، من حيث وجوده الفطري ، نوازع غرائزية للطغيان ، وأن الظلم من شيم النفوس ، وأن من يعفّ عن الظلم فإنما يفعل ذلك لعلة خارجة عن الأصل الطبيعي ؛ كما قال أبو الطيب المتنبي منذ أكثر من ألف عام . وتبعا لهذا التأكيد ، كان مُجمل توجهات البحث الاجتماعي ، يستدعي بصورة دائمة حقيقة اجتماعية واقعية ، وهي أنه لابد من وجود كوابح معنوية ومادية ، ومن قبل ذلك تربوية ، تحدّ من السلوك الطغياني الطبيعي في كافة ميادين الاجتماع البشري ، وتمارس توجيه طاقاته نحو مسارات أفضل ، بحيث تعود بالخير على الفرد وعلى المجتمع الذي يحتوي الفرد ؛ بدل أن يكون ذلك السلوك الطغياني دماراً لكليهما : الفرد والمجتمع ، أي دمار الإنسان . هذا يقودنا إلى حقيقة أصبحت واضحة ، وهي أنه كلما تطور الاجتماع البشري ، تبع ذلك تقلص في مستويات الطغيان . صحيح أنه قد يوجد عدل في المجتمعات البدائية ، وبصور بدائية أيضا . لكنه في كل أحواله يبقى عدلا عشوائيا ومزاجيا ، بل هو عدل استثنائي ، سرعان ما يتحول إلى أبشع صور الطغيان . بينما نجد أن منظومة الحقوق في المجتمعات المتطورة ، ليست نتاج حالة مزاجية عابرة ، ولا هي انعكاس لعاطفة آنية ، بل هي نتاج مراحل متعاقبة من تطور الوعي بالإنسان الذي يتم من خلال الإنسان . وهو (تطور) يتحوّل ، من خلال محايثته لتحولات الوعي ، إلى بنية مؤسساتية متعينة في الواقع ، بنية مترابطة فيما بين عناصرها ترابطا عضويا من جهة ، ومرتبطة وجوديا بالهيكل العام للوجود المجتمعي المتمظهر في أجلى صوره وضوحا (= الدولة المدنية) من جهة أخرى . طبعا ، لا أقصد هنا ذلك التطور المادي المستنسخ في مجتمعات التخلف ؛ فضلًا عن (التطور!) المنقول بفضل قوة القدرة الشرائية ، بل أقصد تحديداً : التطور الذي يحدث في مجال الوعي ، وينعكس في عالم الأفكار ، ويتزل واقعا في عالم المادة . التطور هو ، قبل كل شيء ، مرحلة متأخرة من جدل فلسفي طويل ، حول المسائل الكبرى المتعلقة بالوجود الإنساني ، وأهمها : مسألة الحقوق والحريات المرتبطة عضويا بماهية الوجود الإنساني . وهذا سر ما تأكد من خلال التجارب أن التطور الغربي المذهل ، لا يمكن نقل جانبه المادي (كما يحاول دعاة الأسلمة) دون نقل جدلية الأفكار التي رافقته منذ بداياته الأولى ، ودون اشتباك معرفي وشعوري بالتراث الهائل من الآداب والفنون ، ذلك التراث الذي كان وقود قطار هذه الحضارة المُبهرة ، كما هو ، في الوقت نفسه ، أزهى ثمارها وأبهى تجلياتها ، من حيث هو تراث مشدود إلى حقوق الإنسان ، حتى حقه الخاص كفرد في التمرد على الإنسان . إذا أدركنا هذه العلاقة بين التطور الحقيقي من جهة ، وبين تنامي المعرفة وتنامي الشعور بمحورية الإنسان من جهة أخرى ؛ استطعنا أن نستوعب كيف أن التقليدية ، من حيث هي أكبر عائق للتطور الحقيقي ، هي العدو الأول للإنسان ، وهي المُبرّر والمُشرّع للطغيان . التقليدية ، من حيث هي حالة بدائية غرائزية ، مرتبطة عضويا بالوجود البدائي للإنسان ، ومن ثمَّ ، فهي حالة إعاقة دائمة لتطور الوعي الإنساني . إنها تثبيت دائم للحظات التوحش الأولى ، وكأنها هي أقصى طموحات الإنسان . بقراءة تاريخ التقليدية مقرونا بتاريخ تفاعلها مع واقعها ، نجد أنها على امتداد تاريخها الطويل ، لا تقيم أي وزن للإنسان . منذ بداياتها ، كان الإنسان مادة لفعلها ، أداة لتنفيذ تصوراتها ، ولم يحظ من تقريراتها الكبرى إلا بشعارات عمومية عائمة ، يمكن التلاعب بها ، بل ويمكن تسخيرها وتطويعها لصالح الطغيان والطغاة . فضلا عن أن واقعها العملي ، أي التقليدية ، كان وقوفاً في صف الطغيان ؛ خاصة إذا ما وافق تصوراتها ، أو ساعدها على نشر تلك التصورات ، في مقابل تجريم كل فكرة وتحريم كل عمل لا يتوافق مع تصورها البدائي القائم على التكسب والانتفاع بمحض مزيد من الخنوع والخضوع ، بل واسترقاق الذات ، ثم التشريع لهذا الاسترقاق . قد يستشكل على بعضنا ما يراه من كون التقليدية ترفع صوتها عاليا في الأزمات والمآسي التي يواجهها بعض المسلمين ؛ بحيث يظهر سدنتها ومريدو سدنتها ، فضلًا عن أتباعها من البسطاء ، بصورة المُتوجّع والمتفجّع على إهدار حقوق الإنسان . هذا الاستنفار الكبير لأي مأساة إسلامية إنسانية ، ينخدع به كثيرون ، ويظنون أنه نابع من حس إنساني عميق ، ومن شعور مرهف يستشعر عذابات الإنسان . لكن ، عندما تتأمل هذا السلوك التقليدي ، يتضح لك أنه ليس تألما للإنسان من حيث هو إنسان ، وإنما هو تألم للإنسان التقليدي خاصة ، من حيث هو مادة للوجود التقليدي ، ومن حيث هو أداة لامتداد نفوذ هذا الوجود . منظومة حقوق الإنسان التقليدية ، هي منظومة حقوق التقليدية ، وليست منظومة حقوق الإنسان . فالتقليدية لا تأسى على مآسي الإنسان ، وإنما تأسى على مآسي التقليديين . وهذا هو سر غيابها عن معظم الكوارث الإنسانية التي تقع خارج نطاق إيديولوجيتها الخاصة ؛ رغم أنها تشارك في الإشراف على عدد كبير من هيئات الإغاثة التي ترفع راية العالمية . فمفهومها للإغاثة هو مفهوم إيديولوجي وليس مفهوما إنسانيا . بل إنها تبتهج و(تُعلن) بهجتها في حال وقوع كوارث إنسانية لغير المنتمين لتقليديتها ، مُبرّرة تلك الكوارث التي يذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الأبرياء ، بأنها غضب الله عليهم ، وأنها وحدها المشمولة برضوانه التام . من هنا ندرك أن حقوق الإنسان التي ترد أحيانا في المنظومة التقليدية ، لا يُراد بها حفظ حقوق الإنسان ، وإنما يراد بها حفظ حقوق الإيديولوجيا التقليدية . التقليدية لا تعرف ولا تعترف ، بأن حقوق الإنسان الحقيقية ، هي التي تتعاطى مع الإنسان كإنسان ؛ مجردا من أي اعتبار . إنها لا تعرف أن الحقوق التي تسقط عند أي خلاف فكري أو ديني أو مذهبي ، ليست حقوق إنسان ، بل هي ، في أحسن أحوالها ، حقوق رعايا وأتباع ، بل حتى هؤلاء ، لا تنظر إليهم التقليدية إلا من حيث هم أتباع ورعايا ، أي هوامش مُلحقة ، تسقط حقوقهم عندما يُحاولون ممارسة شيء من التمرد على سلطة التقليدية ، أويميلون إلى التحلل من قيود الخضوع والخنوع والاستذلال. لهذا ، رأينا التقليدية ، ورغم أنها كانت تُكفّر الطاغية : صدام ، إلا أنها انقلبت بعد موته ، لا لتغفر له خطاياه فحسب ، وإنما لتبرر له أفعاله أيضا ، بل وتسعى لحجز مكان له في الجنة . عندما كان صدام ، كقومي علماني ، خطراً عليها ، كانت تمارس تكفيره بأقسى عبارات التكفير . لكنها إذ أمنته بعد موته ، تذكرت الخصومات الطائفية (وهي أقوى فاحص وكاشف عن خبايا العفن الإيديولوجي) وكيف أنه كان (عدو عدوها) المذهبي . وهنا ، وبنَفَس متوحش ، غفرت لصدام جرائمه بحقها ، لا لأنه تاب منها واعتذر إليها ، وإنما لمجرد أنه ارتكب بحق خصمها المذهبي ما هو أشد وأقسى !. التقليدية عند كلا المذهبين : السني والشيعي ، ترى أن الاختلاف المذهبي يلغي إنسانية الإنسان ، فيتم التعاطي معه كعدو فقط ، وليس ، على الأقل ، كعدو وكإنسان في آن . التقليدية السنية المتطرفة تمارس عملية حسابية مقلوبة ، فضلا عن كونها لاإنسانية ، وتتمثل في أنها ترى أن صدام إذا قتل واحدا من أتباعها ، فعليه ؛ كي يحظى بالغفران ، أن يقتل مقابل هذا القتيل اثنين أو ثلاثة من الشيعة . أما إذا ما زاد ، وقتل خمسة أو أكثر ، فهو ، في نظرها ، حقيق بالتبجيل ، ومن حقه أن يتم تناسي جريمته الأولى كأن لم تكن . أي أن الجريمة ، في المنظور التقليدي ، تغفرها جرائم أخرى مماثلة ؛ شرط أن تقع على الطائفة الأخرى ؛ لأن الآخرين (كما هي وجهة نظر مُتطرفي الطرفين) مجرد موضوع لتفريغ شحنات الانتقام ذات النفس البدائي . كل التقليديين الذين أقاموا المآتم الصاخبة أو المآتم الصامتة على صدام ، قرنوا ذلك بالبعد الطائفي . هناك تصريح ، لا مجرد تلميح ، بهذا البعد . أحد سدنة التقليدية المتطرفة في مصر ، والذي بلغ به التطرف حد تضليل كل داعية لا ينتمي إلى الخط التقليدي ، بكى صدام بعبارات خافتة ؛ بعد أن أكّد موقفه العدائي من صدام في الماضي . ولتبرير هذا الموقف بين صدام حيا وميتا ؛ أفصح عن الحسابات الطائفية ، جاعلًا منها الخلفية الأساسية لتغيير المواقف من الطغاة . وطبعا ، وكما هو متوقع من مثله ، أكمل الرثائية الصامتة بلعن وسبّ طائفي مقيت ، سبّ عمّ به الحاضر والماضي ، سبٍّ سُوقي بذيء ؛ يتنزه عنه أحط الناس أخلاقا ، فكيف بمن يدعي أقصى حالات الورع والتقوى والوقار ، ولو بشكلانية كاذبة مفضوحة ؛ لا يخفى تدليسها على الأغبياء ؛ فكيف بالأذكياء ؟! وليس الأمر محصورا في مصر فحسب ، بل هو عام في الحراك التقليدي ، إلى درجة أن أشهر المتلبسين بالتقليدية المتطرفة في الكويت ، قام برثاء صدام بقصيدة (هو يعدها قصيدة ، وإلا فليست بشعر أصلا) اشتهرت عنه ، ولم أجد بعد طول البحث أنه ينفي صدورها عنه . طبعا ، لم يكن بحثي عن صحة نسبتها إليه عبثا ؛ لأن الكويتي خاصة ، إذا ما رثى صدام ، فذلك ليس مجرد كارثة أخلاقية تكشف عن مستوى درجة الانحطاط الإنساني ، بل هي خيانة وطنية عارية ، لا يمكن الاعتذار عنها بحال . وطبعا ، كما في الموقف التقليدي السابق ، حضر البعد الطائفي كمبرر لتغيير الموقف من صدام ؛ ليتقدم الهمّ الطائفي على كل الاعتبارات الوطنية ، بعد أن تم تقديمه حتى على الإسلام ؛ ليصبح الولاء للطائفة وليس للإسلام . هذان الموقفان مشهوران جدا ؛ اخترتهما لشهرتهما ؛ رغم صدور عشرات المواقف المشابهة . ومن هنا ، فهما ليسا تعبيرا عن مواقف فردية ، بل هما يكشفان عن موقف عام في التيار التقليدي كله على امتداد العالم الإسلامي ، بدليل أنك لم تجد من رموز التقليدية المعتبرين من تصدى بحزم لمثل هذا العهر الأخلاقي . بل إن التقليديين وقفوا بين مؤيد بالموقف الصريح المعلن ، أو مؤيد بالصمت المبين عن حقيقة الموقف . هذان الموقفان عندما عرضتهما على أحد الأصدقاء متعجباً من مضمونهما الطائفي والطغياني ، بادر ؛ فأرسل إليّ رابط خطبة قديمة ل(الحكواتي) ، وقال : اسمعها وستكون مفاجأة . وفعلا كانت مفاجأة ، فالخطبة ألقاها الحكواتي بعد إعدام صدام مباشرة ، فبدت وكأنها مرثية نثرية لصدام . فيها ترى كيف يتصاعد الحماس لدى الحكواتي (وكثيرا ما تنفلت أعصابه وتتلاعب به عواطفه ؛ فيكشف عن خبايا تيار بأكمله) في استعراض الموقف من صدام ، إلى أن وصل إلى الترحم عليه ، والثناء على مواقفه ، بعد أن تردد وتعثر في الكلام . لقد كان في انسياقه إلى الترحم ؛ كأنما يجتاز عقبة أو يقفز على حواجز عصيّة من الظلم والطغيان الصدامي . لقد بدا واضحا أنه يدرك حجم جرائم صدام ، وربما حجم كفره ، ولكنه بعدما يستشعر الموقف الطائفي ، ينسى كل ذلك في لحظة انفعال صبياني ، ويتذكر فقط : نطق صدام بالشهادة !. ثم يدلل على أننا ليس لنا إلا الظاهر ، وأن صدام بالشهادة يستحق الغفران !. وهنا ينسى الحكواتي أو يتناسى أن التقليدية التي يعتبر أحد أبواقها الإعلامية ، هي التي تؤكد دائما أن الشهادة بالإسلام لا تكفي ، وإنما لابد من تحقيق مستلزماتها ، وهي مستلزمات كثيرة ومتشعبة عند التقليدية المتطرفة ؛ بحيث تجعل من الناطق بالشهادة محل اختبار باستمرار . وهنا ندرك أن الخلفية الطائفية هي التي تمنح صدام الغفران عند التقليديين ، وليس مجرد نطقه بالشهادة ؛ بدليل أن خصومهم من الطائفة الأخرى ينطقون بالشهادة عدد ما نطق بها صدام ملايين المرات ، ومع هذا لا يقبلون منهم مجرد النطق ، بل يطالبونهم بمستلزمات أخرى ، لم تخطر على بال صدام ( الناطق بالشهادتين !) في يوم من الأيام . إذن ، على ضوء ما سبق ، يتضح أن موقف التقليدية من الإنسان موقف طغياني ، كما هو موقف انتهازي . فالتقليدية ترى أن من لا يتفق معها ، ليس مهدور الحقوق الإنسانية فحسب ، بل يجب التقرب إلى الله بهدر حقوقه وانتهاك إنسانيته . التقليدية لا ترى في الجريمة الإنسانية جريمة ؛ إلا بعد تحديد وجهتها ؛ فإذا كانت مُوجّهة إلى الآخرين : دينيا أو مذهبيا ، فهي ليست جريمة ، بل هي فضيلة ، تستحق الثناء ويرجى لصاحبها الأجر والثواب . أما إذا كانت الجريمة ذاتها مُوجّهة إلى أحد التقليديين ، فحينئذٍ ؛ تصبح هي الجريمة الكبرى التي لا تغتفر ، حتى ولو كان مرتكب الجريمة لَهِجاً بالشهادة وبالصلاة على رسول الإسلام . والخلاصة ، أن التقليدية بهذا ، تصنع وتبرر وتُشرّع فكرة الطغيان وتغذيها باستمرار . ومعروف أن الطغيان قبل أن يكون فعلًا في الواقع ، هو فكرة مستقرة في الأذهان ، يصنعها ويرعاها ألدّ أعداء الإنسان ، والتقليدية اليوم هي بلا شك ألدّ أعداء الإنسان .