في هذا اليوم الخامس من شهر رمضان المبارك لعام 1431ه، يفقد الوطن أحد رموزه، وأحد رجالاته إنه معالي الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي، فها هو رحمه الله يودعه الوطن، ويودع الوطن إلى مثواه الأخير، ذلك الرجل الفذ الذي افتقده وطن في أمس الحاجة لأمثاله، وصعب للمرء أن يعرف المعرف، ولكن للحق فقد كان له مكانة بارزة سياساً، وأدبياً، فإن غصت في أعماقه وجدت رجلاً سياسياً محنكاً، وإن عاشرته وجدت فيه دماثة الأخلاق، نقاء السريرة، بشاشة، جرأة في طرحه، وضوحاً في مقاصده، وإن تأملت به وجدته أديباً واعياً لا يشق له غبار، فقد أثرى الساحة شعراً ونثراً، وحمل هموم الوطن ومآسي أمة أضحت تعاني ويلات النكبات، وأنواع الحروب، فقد شغل الدنيا والناس في كل درب من دروب مسيرته، لذلك فهو يدرك تماماً أنه يلقي الأحجار في المياه الساكنة فيحركها في تموجات قد تعلو فتتحول إلى أمواج عاتية كالطوفان، ذلك هو غازي القصيبي!! ولعلي أستشهد بشيء من سيرته الذاتية التي قالها هو عن نفسه عند تكريمه في حفل مهرجان القرين الثقافي، يقول د. غازي يرحمه الله: (أنا بطبعي لست مغروراً إذا كان معنى الغرور أي شعور بالاستعلاء على أي عبد من عباد الله، وأنا بطبعي لست متواضعاً إذا كان معنى التواضع أن أنكر مواهبي ارضاء لغير الموهوبين.. فأنا ولدت فوجدت لدي موهبة من نوع خاص تعارف الناس على تسميتها شعراً فتبعت الموهبة دون أن أعرف إلى أين ستقودني، ووجدت لدي مواهب أخرى يزعم من يزعم أنها تشمل الرواية والإدارة والدبلوماسية فانقدت لها دون أن أسأل كما سأل المتنبي أطويل طريقنا أم يطول. خلاصة قولي إنني وجدت في أعماقي نازعاً إلى كتابة شعر فكتبت شعراً ولمست في روحي دافعاً إلى كتابة رواية فكتبت رواية وأنست في مكان ما بين القلب والعقل حافزاً يسوقني إلى الخدمة العامة فانسقت معه أعطاني الشعر عدداً من المعجبين وأعطتني الرواية مزيداً من الشهرة واسندتني الخدمة العامة إلى ثلاثة مناصب وزارية حدث كل هذا ولا أكذب فأقول إن هذا كله حدث رغماً عني. وقال الدكتور القصيبي: "حقيقة الأمر أنه كان ما كان وسعدت بما كان يسرني أن يكون لي قراء وقارئات ويسرني أن تتاح لي فرصة الخدمة العامة كما لا تتاح إلا من أعلى مواقع الخدمة العامة الا أن هذا لا يمثل سوى نصف الحقيقة النصف الآخر هو انني عندما كتبت أول بيت من الشعر لم يكن في ذهني أن أصبح شاعراً معروفاً أو ومجهولاً أو حتى أن أطبع ديواناً ذات يوم كتبت أول قصيدة كما يفعل الماشي أثناء النوم انسياقاً مع رغبة عارمة لا يدري من أين جاءت ولا إلى أين ستذهب. يسألني الناس كل يوم ماذا أعطاك الشعر وماذا أخذ منك وأقول صادقاً أنني لا أعرف الجواب مع الشعر لا يوجد حساب دائن وحساب مدين كما يقول سادتي المحاسبون ويسألني الناس كل يوم ماذا أعطتك المناصب وماذا أخذت منك وأقول صادقاً إنني أجهل الاجابة لا أدري هل عينت لانني اشتهرت أم أنني اشتهرت لأنني عينت. إذا كانت الشهرة تكريماً فقد كرمت حتى الثمالة، وإذا كانت ذلك لا بد أن أقول إن التكريم الأكبر والأهم هو رسالة من قارئ لا أعرفه تقول أن قصيدة ما عبرت عن مشاعره فأحس كما لو أنه كتبها أو رسالة من مواطن لم أره يشكرني على ايصال خدمة ما إلى منزله أو قريته".. هذا غيض من فيض، وقليل من كثير، فلو تحدثنا عن هذه الشخصية لامتلأت دفات الكتب بما تخفيه تلك الشخصية، فرحمك الله يا أبا سهيل رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته، فأنت فقيد وطن بحق!!