البيانات التي كانت تخرج مذيلة بأسماء بعض المنتمين صراحة أو ضمنا للتيارات الحركية المتطرفة ، كانت تتقدم وكأنها الممتلكة وحدها للحق ، والمؤتمنة وحدها على بيانه ، وكأن الآخرين ( وهم لديها : كل من لم يؤيدهم على بياناتهم ) مجرد خونة أو شياطين خرساء يستطيع أي مراقب للعشوائية التي تلبست الخطاب الديني مؤخراً ، وخاصة بعد الانفتاح الإعلامي الذي منح عشاق الكاميرا فرصة غير مسبوقة للظهور وللتكسب حدَّ الثراء الفاحش ، أن يرى الإيجابيات التي انطوى عليها قرار تحديد جهة الفتوى ، وتنظيم شؤون الخطاب الديني المحلي ، بما في ذلك الجهود الذاتية العشوائية التي ينسبها أصحابها إلى الاحتساب ؛ بينما هي تدخل في باب الشغب والعبث ومغازلة مبادئ الإرهاب . لقد كان القرار خطوة طالما انتظرها المعنيون بتأزمات هذا الخطاب ، خاصة في هذا السياق الإعلامي الذي فتح فيه المتطرفون عشرات القنوات المتطرفة ، تلك القنوات التي تمتهن الفتوى على مدار الساعة ، والتي لابد أن تبحث عن كل ما / مَن يسد لها هذا الفراغ الزمني ، ولابد أن تضع الأولوية للإثارة بالغرائب من جهة ، ولأيديولوجيا التحريم من جهة أخرى ؛ لتظفر بأكبر قدر من الأتباع المبهورين بغرائب الفتاوى ، والمأخوذين بتنطع المتنطعين . أي شيء تدخله التجارة ، أو تتمحور حوله المكانة الاجتماعية ، لابد أن يكون ميدانا للتنافس ، ومجالا لتحقيق أكبر قدر من المكتسبات . لن تنفع المواعظ في إيقاف مطامع الطامعين في المال والجاه ، بل سيتهارشون عليهما ؛ ما لم يوجد قانون صارم يقطع عليهم الطريق أي أن الفتاوى بعد أن حوّلها هؤلاء إلى تجارة رابحة ، أصبحت كالتجارة الصريحة بالأموال ، لا ينفع معها إلا تنظيمها في قوانين وعقوبات ؛ وإلا لتحطم الاقتصاد من أساسه . فالقوانين والأنظمة التي تفرز الحقوق ، رغم أنها قيود ؛ إلا أنها تدعم الاقتصاد ، وتمنحه الأمان اللازم للنمو المطرد . وكذا الحال في الفتوى ؛ بعد أن أصبحت رأس مالٍ عابراً للقارات ، رأس مال غير جبان !. لا يمكن تقييم القرار من خلال قراءته خارج سياق حالتنا الدينية . القرار ، من حيث هو، قرار سياسي ، لابد أن يُقرأ في سياقه المحدود بحدود إحداثيات المكان الخاص والمكان والزمان ؛ لأن السياسة هي ابنة مكانها ولحظتها . ومن هنا ، فعلى الذين يرون في هذا التحديد تضييقا على حرية التعبير ، أن يفرقوا بين حرية التعبير ، وبين حرية ادعاء القدرة على الحديث بلسان الشرع . فلكل أحد أن يقول رأيه ؛ كرأي لا يحلل ولا يحرم ، ولكن ليس لكل أحد أن يزعم أنه يمتلك القدرة على تحديد مراد الله في الحلال والحرام . الفتوى عندما تصدر ، لا تصدر كرأي ، وإنما يزعم لها صاحبها قوة الإلزام الديني ، أي أن الخروج عليها خروج على حدود الله ، وانتهاك لأقدس المقدسات ، فهي بالقرار الملزم أشبه منها بالرأي الخاص . ولأنها كذلك ؛ فهي تشريع في الشأن العام ، بل هي أحيانا أمْرٌ صريح بالتنفيذ . وهنا نرى أنها لابد أن تدخل في اشتباك مع مجمل الأنظمة القانونية والاجتماعية ذات الطابع الاتساقي ؛ من حيث هي مرتبطة بمؤسسات تنظيمية مسؤولة . لابد أن يحدث الخلل ؛ عندما تكون هناك أنظمة إفتائية عشوائية متضاربة ، في مواجهة أنظمة موحّدة على مستوى الوطن الواحد ؛ فلا يدري المتلقي حينئذٍ أي النظامين يتبع ، بل حتى لو حدد خياره ، فلن يستطيع تحديد أي الآراء الافتائية هي أولى بالاختيار . لا أقصد هنا: ( المتلقي ) كفرد يستطيع الاختيار ، أي كحالة معزولة ، وإنما المتلقي كمجتمع كبير يسير وفق نظام قانوني واجتماعي ، مجتمع لابد أن تتناسق أنظمته وقوانينه ؛ وإلا لأصبح في حيرة بين عِدّة مصادر للقرار ، أحدها يقول له : افعل ، والآخر يقول له :لا تفعل ، وخاصة في المجالات التي لا مكان فيها للخيار ؛ لارتباطها بحقوق الآخرين في الاختيار . إذن ، إذا كانت الفتوى تُصرُّ على أن تفعّل في المجال العام كغيرها من المؤسسات التشريعية والتنفيذية ، وأن تكون لها القوة نفسها ، فلابد أن تكون ذات وجود قانوني داخلٍ في الهيكل العام للمؤسسة الكبرى ( = الوطن ) . ولا يمكن أن تحظى بهذا الوجود القانوني إلا بتنزلها في الواقع كوجود مؤسساتي ؛ بحيث تشتغل وفق المنطق العام للمؤسسة الكبرى ( = الوطن ) . دائما ما يكون منطق المؤسساتية أقرب إلى التعقل من منطق القرار الفردي . القرار الفردي ( والفتوى هي في حقيقتها قرار ) خاضع لحسابات الفرد ، ولنظرته ذات البُعد الواحد ، أو المنحازة لبُعد واحد . القرار الفردي يمكن أن يكون مزاجياً يتبع تحولات المزاج الخاص بصاحبه ، كما يمكن أن يكون مغامرا ، وربما متهورا . بينما القرار المؤسساتي هو قرار إجماعي أو شبه إجماعي ، ولا يصدر إلا بعد مروره بكثير من حالات الفرز والمساءلة والمراجعة التي تبحث في مآلات القرار وانعكاساته في الداخل والخارج . الطابع المؤسساتي لأي عمل هو طابع مدني ، ذو مسؤولية مدنية مشدودة بعمق إلى الواقع ، الواقع الذي هو المصدر الأساس للتعقل . وهذا عكس الطابع الفردي الذي له طبيعة بدائية ، طبيعة قد تجنح إلى الأحلام ، وقد تغوص في عالم الذكريات والخيالات التاريخية التي تبعدها عن عالمها الحقيقي ( =عالم الواقع ) . وبما أن المؤسساتية ذات طابع عقلاني ( نسبي بطبيعة الحال ) فعلى كل من يريد الاشتغال في إطار المؤسسة أو في مجال مهامها أن يلتزم بنظامها . ومعنى هذا ، أن يتم تقييد الانفلات الفردي اللامتعقل بجهة إجماعية متعقلة . وهنا ، سيصبح حتى أكبر المتهورين مشدودا إلى منطق عقلاني ولو بالإكراه ؛ لأنه سيعلم أن من ورائه مؤسسة مسؤولة تراقب أداءه وتحاسبه على شطحاته ، جهة لديها صلاحية سحب رخصة العمل الإفتائي منه ؛ في حال تمرّد على مرجعيته في الفتوى . وحينئذٍ ، تصبح فتواه بلا قيمة ، بل تصبح مجرد رأي خاص مُدان بقوة الإجماع المؤسساتي . إذن ، القرار سيحقق مرحليا ، مهمة عقلنة الفتوى ؛ لأن التنظيم هو أحد أوجه التعقل . هذا في المجمل العام أما من حيث النتائج الإيجابية المتحققة على المدى القريب ، فأهمها في تقديري ما يلي : 1 - وضع حد لعملية تحويل الفتوى إلى تجارة . فإذا ما طُبّق القرار بالحيثيات المرفقة ، فلن يجد بائعو الفتاوى على الفضائيات من يشتري بضاعتهم ، بل سيجدون المساءلة والعقاب في الانتظار . ولأنهم أولا وأخيرا مجرد : تجار ؛ فسيحسبونها بمنطق الربح والخسارة ، وسيجدون أنفسهم إما مُتنازلين عن المال والجاه لحساب المرجعية التي تمنحهم اعتبارهم ومصداقيتهم عند الجماهير ، وإما متنازلين عن تزكية المرجعية لحساب المال والجاه الذي لن يتأتى بسهولة في حال أدانتهم المرجعية بحزم ؛ كما تقضي بذلك حيثيات القرار . 2 - ستتوقف الآراء الإرهابية أو المتعاطفة مع الإرهاب . لن تسمع بمن يفتي بوجوب هدم المسجد الحرام ، ولا من يفتي بتكفير مبيح الاختلاط ، ولا بمن يطالب بقتل مُلاك الفضائيات ، ولا من يصف أحد علماء المسلمين بأنه فاجر داعر ، ولا من يقول : إنه لا وجود لدولة إسلامية إلا دولة طالبان ، ولا من يفتي بكفر هذا المفكر أو ذاك ، ولا من يحكم من منطلق طائفي على شريحة كبيرة من مواطنينا بأنهم كفار مشركون خارجون من ملة الإسلام ؛ لا يجوز الزواج منهم ولا أكل ذبائحهم ، ولن تسمع من يفتي بوجوب الجهاد في بؤر الصراع ، في هذا البلد أو ذاك ..إلخ . ستنتهي كل هذه الآراء التكفيرية المتطرفة ، أو على الأقل ستختفي من واجهة الإعلام ، وسيخنس أولئك الذين كانوا يُروجونها لحشد مزيد من الأتباع الرعاع ؛ لأن الخسارة حينئذٍ أكبر من أرباح الإثارة ، خاصة وهم " أحرص الناس على حياة " ، وعلى الجاه في هذه الحياة !. 3 - ستنتهي الفضائح التي شوهت سمعتنا وسمعة ديننا على المستوى العالمي ، كما ستنتهي الفتاوى غير المسؤولة ، والتي كانت تحرجنا أمام العالم ، وتُظهرنا وكأننا مجرد صناع للكراهية وأعداء لحقوق الإنسان . وحتى لو وُجدت فلتات مجنونة من هذا المتهور أو ذاك ، فستكون المؤسسة المناط بها الافتاء تحديداً لهذه الفلتات بالمرصاد ، وسيكون موقف المؤسسة منها فرصة لوضعها في خانة الشذوذات ، أي أن مثل هذا الفلتات المُدانة لن تلزمنا أمام العالم ، لا قانونيا ولا أدبيا ، بل سيتم تحويلها إلى سلة المهملات ، وعلى مرأى من العالم أجمع . وفي تقديري أن هذا من أهم إيجابيات قرار تحديد جهة الإفتاء . 4 - نص القرار على مسألة مهمة ، وهي وقف تلك البيانات العشوائية التي يكتبها أحدهم ، ثم يوقع عليها جملة من عشاق الظهور الإعلامي ، والذين يقدمون مصلحتهم في الظهور على كل اعتبار آخر . من يقرأ تلك البيانات التي كانت تصدر ، وكانت تحظى بحماس المتطرفين ، يرَ فيها جميع ألوان التطرف والتهور والبحث عن كل ما يؤسس لتأجيج الصراع في الداخل والخارج ؛ وكأنهم لا يستطيعون العيش إلا في لهب الصراع . إن تلك البيانات التي كانت تخرج مذيلة بأسماء بعض المنتمين صراحة أو ضمنا للتيارات الحركية المتطرفة ، كانت تتقدم وكأنها الممتلكة وحدها للحق ، والمؤتمنة وحدها على بيانه ، وكأن الآخرين ( وهم لديها : كل من لم يؤيدهم على بياناتهم ) مجرد خونة أو شياطين خرساء . لقد كانت هذه البيانات تخرج بلغة حاسمة جازمة ، زاعمة أنها تتحدث بمنطق الرؤية الدينية ، أي أنها كانت تطرح نفسها كفتوى إجماعية ملزمة ، لا مجرد رأي من جملة الآراء . أي أنها لم تكن حالة تعبير عن الرأي ، بل كانت تزعم أنها تنقل للناس حقيقة مراد الله !. 5 - أشار القرار إلى تحديد وتنظيم الاحتساب . أي أن تلك المظاهر التي كنا نراها في التجمعات العامة ، من قيام بعضم من تلقاء نفسه بتكوين مجموعة من مريديه ، يتجول بها بين الناس ، فيأمر وينهى ، ويرعب ويرهب ، لن يكون لها وجود بعد الآن . لن يكون هناك استخدام للقوة بالاعتماد على الرؤية الذاتية ، ولن نجد أنفسنا محرجين في بعض المعارض الدولية المقامة في الداخل بسبب عبث هؤلاء الذين كانوا مصدر شغب وسبباً في تشويه سمعتنا وتصويرنا بأننا لا نزال في أشد حالات التطرف والانحطاط . إن كل هذه النتائج الإيجابية ، وغيرها مما هو في سياقها ولا يتسع المجال لعرضه هنا ، يجعلنا نرى أن هناك مرحلة جديدة للخطاب الديني المحلي ، مرحلة من الانضباط والتعقل ، مرحلة من اندياح الروح المدنية ، في وقت لم يعد يسمح بعبث العابثين ، خاصة عبثهم بأقدس المقدسات لدينا (= الدين) .