مفجع أن يأتيك نبأ غياب عزيز عليك الى الأبد.. ومفجع أكثر أن تمر أمام عينيك لقطات حياتية جمعتك به مرة بعد مرة في مسيرة حياة ثرية بالعطاء المميز جعلتك موقنا بأنه يستحق المعزة والمودة والإحترام. اليوم اختطف الموت منا أخي الروحي غازي القصيبي فيا لألمي لفقد لا يمكن ان يعوض. ولا أراه إلا هكذا كما عرفته في الصغر في البحرين دون ألقاب معالي الوزير وسعادة الدكتور.. فهو هكذا أقرب اليّ وأغلى وأعز بذاته من كل شهاداته وألقابه ومناصبه المتعددة.. غازي عبدالرحمن القصيبي، ابن الجيران الذي بيتهم على بعد خطوات من بيت طفولتي الأولى، الصبي الموهوب الذي رأى والدي رحمه الله فيه بوادر الشاعر الفحل القادم مستقبلا فضمه تحت جناحه الأدبي بين المقربين من ابنائه الروحيين. لم أقابله في الطفولة وسمعت عنه في الصبا وقرأت له في الشباب.. وكنت بالنسبة له بنت " الأستاذ ابراهيم". عرفته في البدء عن بعد إنسانا محبوبا محترما زميل دراسة وصديق عمر للخاصة من أقربائي والدي وزوج أختي يوسف الشيراوي رحمهما الله وأخي وزوج أختي الأخرى عبدالله الشيخ. وعرفته شخصيا فيما بعد مسؤولا مهما ومثقفا محترما وإنسانا نبيلا يجمع الحس الثقافي العالي بالحس الإنساني المرهف. وظل الشاعر والأديب فيه الجانب الأهم الذي يشدني لمتابعته والتهام مؤلفاته. ولم أكن وحدي في العائلة افعل ذلك.. محبوه بيننا امتد تسلسلهم من والدي لأخي للأزواج شقيقاتي لزوجي وابني وبناتي.. كلنا نبحث عن كتبه في المكتبات. ويا لحزن أديب يعشق وطنه ولا نستطيع ان نجد كتبه في مكتبات هذا الوطن. أي وعي ثقافي كان غائبا في الرقيب ؟؟ كان غازي منذ طفولته شاعرا بالسليقة: شاعرا ليس فقط لأنه امتلك قدرة سبك الكلمات في عقود القصائد أو الكلمات الرسمية أو الروايات بصيغة متميزة التفرد كما يسبك الصائغ الفنان حلية ثمينة نادرة المكونات فما أكثر القادرين على النظم وما اقل الشعراء الحقيقيين بينهم . هو كان شاعرا بالفطرة لأنه عاش يحس نبض الحياة وضغوطها ومستجداتها بروح شاعر، ويراها بعيني شاعر ويحلم بها بسعة أفق خيال شاعر فذ. وكانت تلك الشاعرية الفذة فيه هو ما يؤطر كل مواقعه ومواقفه الأخرى. حين وقف يحتفل بافتتاح جسر الملك فهد يربط البلدين الوطنيين اللذين أحبهما من القلب اختصر الشعور والإنجاز في بيت ضمن قصيدة فذة البلاغة: ضرب من العشق لا درب من الحجر هذا الذي يربط الواحات بالجزر أستطيع ان أملأ موسوعة عن هذا الرجل الفذ العملاق ليس فقط بجسده بل بعبقريته الأدبية وتجربته الإدارية التي خدم بها ليس فقط بلديه الأقربين، بل عالمنا العربي في كل أدواره ومناصبه. هو الذي جعل للأدب والثقافة موعدا أسبوعيا يظللهما صالون أدبي مفتوح خلال فترة خدمته كسفير لحكومة المملكة العربية السعودية في لندن. مواقف متعددة عرفته فيها كأخ مقرب في العائلة: يوم زارنا في البيت وهو طالب يدرس في القاهرة وجلست استمتع بحوار مثر مع والدي ونسيبي يوسف الشيراوي.. ويوم قرأت ما كتب عن والدي ابراهيم العريض في روايته " شقة الحرية".. ويوم جاء رغم معاناته من الإنفلونزا وألقى كلمة يرثي فيها والدي في ذكرى تكريم وزارة الإعلام البحرينية له فاستمطر الدموع من أعين الحاضرين.. ويوم جمعنا مؤتمر رؤساء الجامعات العرب وألقى به كلمة بالغة العمق في معنى الثقافة والتعليم تركت فيّ وأنا المتخصصة في التخطيط التربوي بالغ الأثر.. ويوم اختار قصيدتي " الليل" دون أن أدري ليشرفها ان تكون ضمن مائة قصيدة لمائة من الشعراء العرب جمعها في إصدار مع ترجمات الى اللغة اإنجليزية بعنوان" الريش والأفق" من أوائل ما عرف الساحة الأدبية العالمية على الشعراء العرب في العصر الحديث.. ويوم قرأت له ما كتب عن ديواني " أين اتجاه الشجر؟ " ضمن زاويته العتيدة في المجلة العربية .. ويوم وهو سفير المملكة في لندن استقبلني كأول شاعرة تقدمها جمعية الثقافة والفنون السعودية في أمسية شعرية بالخارج وتحتفي بها السفارة في لندن في احتفالات المئوية. ويوم تابعت زاويته " في عين العاصفة" أثناء حرب الخليج الأليمة. كان رجلا فذا لم تسيره الأطماع المادية ولا احتمالات ما يمكن ان يجنيه من منصبه كمسؤول مهم. تسنم وزارات عدة فكان همه ان يجد حلولا تخدم احتياجات المواطن لا رغبات المتنفذين. وكان مبدعا فذا لم يبدع ليصفق له الآخرون ويعترفون به مبدعا فهو يعرّف نفسه كشاعر ببساطة " رجل عادي لديه ملكة التعبير عن الشعور بصيغة أدبية " ظللت مثل غيري من محبيه وعشاق تميزه أتابع أخباره عن بعد وهو يعاني اعتلال صحته مؤخرا وأتألم حين أسمع تفاصيل ما يجري.. وأدعو الله من القلب أن يشفيه الله ويعود إلينا سالما معافى هذا الرجل الذي وضع كتاب الله في كل غرفة من غرف المستشفيات حين تسنم وزارة الصحة.. واتخذ لها شعارا كلام الله " وإذا مرضت فهو يشفين". هذا الرجل الذي اعتبرته بقرابة الأخ الروحي ربما دون أن يدري.. كنت أحلم بأن يحقق الله أمنيات ودعوات محبيه.. ولكن لله في ما يختار حكمة لا نعلمها.. اختار أن يكون غازي الى جانبه. اليوم جاءني خبر انتقاله الى رحمة الله في هذا اليوم الفضيل من شهر رمضان. ولم أجد ما أقول غير تمتمة رحمه الله وتغمده في جنانه.. كان رجلا فذا كيفما قيمت معرفتي به أو عنه. قامة شاهقة جسديا ومعنويا وأدبيا سيجد عالمنا العربي صعوبة بالغة ان يلد مثلها يتجسد فيها أرقى ما يمكن من الرقي كيفما قيمناه. (إنا لله وإنا إليه راجعون) رحمه الله وغفر له وألهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان