عاد أحد الأصدقاء من أمريكا بعد أن حصل على درجة علمية في التعليم، وكان متحمسًا ومقتنعًا بطرق التعليم الجماعي المتّبع في أغلب مدارس أمريكا. وحينما تعيّن معلمًا لمادة اللغة الإنجليزية في إحدى مدارس مدينة الرياض، راح يطبّق أسلوب التعلّم عن طريق المجموعات. وكان يقسّم الفصل إلى أربع أو خمس مجموعات من الطلاب، يتغير تشكيلها كلّ مرة. ويبدأ بتحفيزهم عن طريق إثارة أسئلة، أو طرح مشكلة، طالبًا من كل مجموعة أن تفكّر بطريقتها لتصل إلى إجابة أو إجابات مناسبة. كانت هذه الطريقة جديدة على الطلاب، فالمعتاد هو أن يقف المعلم أمام الجميع ويسأل ثم يتلقّى الإجابات الفردية دون أن يتشاور مع أحد. والواقع أن هذه الطريقة تقلل من سطوة الروح الفردية عند الطلاب وتُحلّ الروح الجماعية محلّها؛ فالذي يجيب عن السؤال -في أسلوب المجموعات- إنما يعبّر عن مجموعته وليس فقط عن نفسه. وهنا، اصطدم المعلم برفض الطلاب المتفوقين لهذه الطريقة وتبرّمهم منها؛ لأنهم وجدوا أن تميّزهم الفردي قد اختفى وسط المجموعة، ولم يسرّهم أن يجعلوا من مجموعتهم متميّزة مادامت روحهم الفردية لم تظهر. وانتهى الأمر بتدخّل أولياء الأمور وإقناع إدارة المدرسة بخطأ هذه الطريقة لأنها لاتناسب مجتمعنا إطلاقًا. فتوقّف المعلم، وعاد وهو محبط إلى الطريقة التقليدية في التعليم. إنّ فشل هذا المعلم في إنجاح طريقة التعليم الجماعي، هو فشل مكرّر في مجتمعنا، الذي يبدو أن الروح الفردية تسوده في كثير من القضايا. فهنا نحن نرى أن بعض المشروعات الجماعية تنتهي بالفشل لأن كل عنصر مشارك يريد أن يكتب اسمه أولا أو يُعطى أهمية أكثر من بقية زملائه أو تكون له الحظوة الأكبر أو الرأي النهائي.. وغير ذلك من المشكلات التي ترافق العمل الجماعي لدينا. والواقع، أن الروح الفردية تنمو معنا منذ الطفولة، حينما تبدأ الأم أو الأب بمحاولة تحفيز الطفل عن طريق مقارنته بأقرانه. وهذه المقارنة لاشك أنها مقارنة غير منصفة رغم أن الهدف منها تحفيزي، ذلك أن كل فرد في الدنيا له ظروفه وله مقوماته النفسية والبدنية والعقلية التي تجعله يختلف -بالضرروة- عن سواه. ومن الظلم مطالبة طفل أن يكون شبيهًا بغيره في كل شيء. ومن هنا، تنشأ عند الطفل الروح الفردية التي لاتخلو من الغيرة. وتأتي المدرسة لكي تكرّس هذه الروح عن طريق التشجيع الفردي واستخدام عبارات من مثل: "أفضل طالب"، و"الأول على الدفعة"، و"الأول على الفصول"، وغيرها من الأساليب التي تُعلي من الروح الفردية ومافيها من أنانية على أوسع نطاق. ومع أهمية الروح الفردية عند المرء لكي يتحمّل المسؤولية ويعرف تبعات سلوكه الذاتي، إلا أنّ سيادتها وتفاقمها بشكل كبير يعدّ عائقًا أمام النمو النفسي المتوازن للمرء، ويقلل في الوقت نفسه من النجاح الاجتماعي الذي يمكن أن تُحققه الروح المشاركة للجماعة. وتستطيع الأسرة أن تُساهم في تربية الأطفال على روح المشاركة عن طريق تبادل الألعاب بين الأطفال، وتبادل الهدايا، والتعاون في عمل حفلة أو تنظيم ألعاب أو غير ذلك من الأعمال التي يشترك فيها أكثر من طفل. وكلما نجحت الأسرة في جعل الطفل قادرًا على التبرّع بنصيبه من الشيء المحبب إلى نفسه لشقيقه أو شقيقته عن رضا نفس، فقد نجحت في جعل الطفل يشعر بغيره ويحس بالجانب الإنساني عندهم ويشاركهم العمل والمشاعر. إن الروح الجماعية تقلل من الأنانية وحبّ الذات عند المرء وتزيد من شعوره بالمسؤولية. والجدير بالذكر أن الأنانية المتطرفة تدفع المرء إلى اقتراف أخطاء أخلاقية فادحة يصل بعضها إلى ارتكاب الجرائم ضد الآخرين. والعجيب أن المصاب بهذا الداء تجده دائمًا ما يتملّص من المسؤولية ويُحمّل الخطأ إلى غيره؛ فيرجع ذلك إلى شخص معين أو إلى النظام أو البيئة، وإن لم يجد أحدًا يتحمّل خطأه رماه إلى من لايدافع عن نفسه وهو الحظ والنصيب!