أن عالم المرأة الإرهابي عالم أوسع بكثير مما نظن ونحدس ( وهل نستطيع غير الظن والحدس !) ؛ لأننا إذا كنا قد قمنا بقراءة الإرهاب في وجوده الذكوري المعلن ، فإننا قد بقينا بمنأى عن رصد الدور النسوي في دعم الظاهرة الإرهابية المرأة في المجتمعات التقليدية حضور متوازٍ على مستويين من الحضور : المرأة كحقيقة والمرأة كوهم . هذا الحضور المتوازي والمُتواقت في أكثر الأحيان لا ينفي أن المرأة الوهم قد تلغي كثيرا من معطيات الوجود الحقيقي للمرأة ؛ فتصبح ( = المرأة الوهم ) هي الوجود الحقيقي الذي يشتغل عليه الواقع بكل مكوناته ، بما فيها ( الواقع الذهني ) القابل للتغيير والتحوير بأسرع مما يجري في عالم الأعيان . إنه صراع وجود بين حضورين للمرأة ، كلّ منهما يصنع ( امرأته ) الخاصة من أمشاجٍ شتّى ، أمشاج ٍ تختلط فيها ( وقائع الواقع ) ب( وقائع الخيال ) ب(تطلّعات الأحلام الحَيرى) تلك الأحلام التي لا تزال تُحرق بقايا (الذاكرة اليباب ) ، ذاكرة الزمن المُتصحّر الذي لايزال زمنا بلا أحلام . أي الوجودين هو الوهم ، وأيهما هو الحقيقة ؟ هل المرأة التي جرى تنميطها بواسطة كل ما سبق كحالة : ضعف ، وخور ، وعطالة ، وبطالة ، وعار ، رُهاب شرف قابل للهدر ، ومشروع إنتاج تناسلي فاشل سلفا بحكم النوع ، وإغواء شيطاني موجود بالقوة قبل أن يكون موجودا بالفعل ، أم المرأة التي تتحرك في الواقع ، وتقوم بالفعل الأصعب والأنجع ، المرأة التي يقع عليها من الأعباء الحياتية والمسؤوليات المباشرة وغير المباشرة ما لا يطيقه الشطر الآخر ، وربما لا يتصوره ، وإن تصوره لم يعترف به ، بل وتتحمل خلال ذلك من التبعات المادية والمعنوية ما يقصر عنه وهمه ؛ فكيف بوعيه الانتقائي المنحاز لتصورات العالم الذكوري المريض بتاريخ طويل من النزوات والأوهام ؟ كلاهما وهم وكلاهما حقيقة ، خاصة في ظل ( الوجود الغيبي ) للمرأة في مجتمعات التخلف ، ذلك الوجود الذي يكاد أن يكون هو بحد ذاته وهماً من الأوهام . عالَمان منفصلان وممتزجان وهماً وحقيقة ، ولكنهما موضعان لفعل ذهني لايعي حقيقة هذا الانفصال الذي أبدع في صنعه ، ولا حقيقة ذاك الامتزاج الذي لا وجود له ما لم يتم سلفا الوعي بالانفصال . وإذا تقرر الانفصال ؛ أمكن الزعم بأن هناك امتزاجا بينهما في الواقع ، كما أن هناك امتزاجا بينهما في عالم التصورات الذهنية التي تعجز عن تحديد أي معالم ؛ لأنها في النهاية تتعاطى مع عالم شبحيّ يستحيل الإمساك به إلا بخيوط من الوهم !. وبهذا تتداخل الصور الحقيقية المتعارضة فيما بينها ، كما تتداخل الصور الذهنية المطبوعة بكثير من الأوهام وكثير من الحقائق ؛ لننتج أخيرا عالما من الأوهام . وبما أنه لا وجود لبرزخ بين هذين العالمين الموجوديْن على مستوى الواقع ، وعلى مستوى التصورات الكلية النمطية عن المرأة ، بل هما عالمان متداخلان متفاعلان في الوعي التقليدي المنقوع بثقافة التطرف ؛ فالمرأة تصبح حالة من الوجود المتناقض ، فهي : ضعيفة هشة ، ولكن عليها أن تتحمّل أكثر ، وهي حالة شيطنة وإغواء بالفطرة ، ولكن عليها أن تكون الأنقى والأتقى ، وهي بذاتها الأنثوية مشروع انحراف ، ولكن يجب عليها أن تبتعد عن الشبهات ألف ميل ؛ وإلا تمت محاسبتها لا على تصرفاتها فقط ، وإنما حتى على وساوس الآخرين عنها ، وهي غير قادرة على تحمّل المسؤوليات الكبرى ويجب أن تبقى في دور ( التابع ) دوما ، ولكن عليها أن تتحمل أكبر مسؤولية ، مسؤولية التردي الحضاري الناتج كما في الزعم التقليدي عن انحراف المرأة وعدم التزامها بتعاليم دينها . وهكذا ؛ فالمجتمع التقليدي يتعاطى مع المرأة بوعي مزدوج ، فهي الضعف والقوة في آن ، يأخذ منها أضعاف ما يأخذ من الرجل ، بل ولا ينمو وجود رجاله إلا بما يأكلونه من وجودها ، ولكنه لا يعترف لها إلا بقصورها وهامشيتها بل وتفاهتها !. إذن ، هناك أكثر من ثنائية ، وبالتالي ، أكثر من ازدواج . هناك ثنائية : التصورات الذهنية مقابل الواقع العيني ، وهناك ثنائية : حقائق التصورات مقابل أوهام التصورات ، وهناك ثنائية : حقائق الواقع مقابل أوهام الواقع ، وهناك ثنائية : الوجود الحقيقي للمرأة الذي يفرض نفسه في بعض التفاصيل مقابل الوجود الشبحي الغيبي . وهذا يدل على أننا أمام عالم هلامي ، لا كما ينعكس على مجمل تصوراتنا وحسب ، بل حتى على مستوى الوجود الواقعي اللاواقعي ، أي الوجود المحجوب . وهلامية هذا العالم تجعله موضوعا قابلا للتّخلق وفق متطلبات الإيديولوجيا المهيمنة ، وللاستخدام كما يشتهي كل فريق ؛ وفق ما تمليه عليه مقتضيات الصراع على امتلاك الوجود الواقعي ، الذي لابد أن يبدأ بصراع على امتلاك الوجود الذهني الذي هو الفيصل الأخير في هذا الميدان . هذا الوجود الإشكالي للمرأة ، والذي يصعب الإمساك به وعياً ، يجعل من الإمساك به كوجود واقعي أمرا في غاية الصعوبة . لهذا فإن الوعي به ، فضلا عن معاينته ، أمر متعذر إلى حد كبير . إنه وجود يُمثّل العالم الأمثل للتخفي والروغان ، والذي بدوره يمثّل العالم الأنسب للجريمة ، وخاصة الجريمة ذات البعد الإيديولوجي ، أي التي تحمل معنى من معاني التبرير المنتمي إلى عالم المثاليات ، كما أن كون الجريمة ذات بعد إيديولوجي يعني أنها لابد أن تكون قد مارست الإعداد في هذا السياق لفترات زمنية طويلة ، قبل أن تطفح على السطح . وطول مدة الإعداد يحتاج لزمن غير اعتيادي للعمل في الخفاء . وعالم المرأة في المجتمعات التقليدية هو أفضل حقل لمثل هذا النشاط ، حيث هو عالم يتوارى خلف ألف حجاب وحجاب . عالَم المرأة في المجتمعات التقليدية عالم مثالي لأي نشاط خارج عن حدود القانون أو عابر لحدود الأخلاق . هو أولًا : عالم خفي ليس من السهولة بمكان أن يكون تحت الرصد . وهو ثانياً : عالم قابل للتطويع ؛ لأن الكائنات التي يتشكل منها ( = النساء التقليديات ) كائنات بشرية تم ترويضها لتكون مجرد مواد قابلة للاستخدام ، إذ هي تعودت أن تكون موضوعَ تصرّف من قِبل الآخرين ، ولم تعتد أن تتصرف بذاتها ؛ فتمتلك حقها في التصرف خارج عالم الأوصياء . وهو ثالثاً : عالم إشكالي في طرائق التعامل معه ، حيث إن مراقبته عن قرب تُعد خرقا للحرمات ، كما أن التعامل مع الجريمة فيه بعد تحققها يكون أشبه بالمشي على الحبال المعلقة ، حيث لابد من حفظ التوازن بين عشرات الاعتبارات . المتطرفون ، وكجزء من الوعي المزدوج ، يتعاطون مع المسألة النسوية في السياق الترويجي للتطرف على مستويين مختلفين بل ومتضادين فالمرأة كواقع وكرمز يجري توظيفها للتجييش وللحشد ولإحراج المجتمع التقليدي المخاطَب في خياراته ، أي أنهم يستخدمون حساسية المسألة النسوية في المجتمعات التقليدية لجعل هذه المجتمعات تنساق وراء خياراتهم المتطرفة ، مُروّجين في هذا السياق لقدسية المرأة ووجوب صونها عن الابتذال ، بل حتى عن العمل بوصفه في دعاواهم المعلنة نوعا من الابتذال ، لكنهم ، وفي مستوى آخر مختلف ، يمارسون ابتذال المرأة غاية الابتذال ، فيستخدمونها كإحدى أدوات الجريمة ، وكغطاء غير أخلاقي للتخفي وللإخفاء ، وكقناة تواصل فيما بينهم ؛ لتكون مجرد قنطرة يعبر عليها الفعل الإرهابي بكل جرائمه ورذائله وانتهاكاته وبهذا يصبح المستوى الأول في خدمة المستوى الثاني ، فقدسية المرأة إذ تطرح ، لا تطرح لأجل المرأة ، وإنما لتوظيف هذا البعد من أجل الترويج للأفكار المتطرفة من جهة ، ولتحصين الحراك الإرهابي من جهة أخرى . وفي كلتا الحالين ، لم تكن المرأة ذاتاً فاعلة واعية تمام الوعي بذاتها ، بل كانت مجرد أداة من أدوات الجريمة ، وأفضليتها تتحدد فقط في أنها : آمنة وطيّعة الاستخدام . لقد مارس المتطرفون تفريغ عالم المرأة عن قصد بما وراء هذا التفريغ . نعم مارسوه عن قصد ، مع أن المجتمع التقليدي المنخدع بهم لا يرى لسذاجته المفرطة التي تصل حد البله بل والعته أحيانا إلا اليافطات المعلقة ، والشعارات المعلنة التي تتقاطع مع ما ورثه عن الآباء والأجداد . إبقاء عالم المرأة عالماً مغلقاً هو فعل مقصود من قبل المتطرفين ؛ لأنه إذا ما بقي كذلك فسيمكن استخدامه والعمل من خلاله على درجة عالية من الأمان . وفي تقديري أن عالم المرأة الإرهابي عالم أوسع بكثير مما نظن ونحدس ( وهل نستطيع غير الظن والحدس !) ؛ لأننا إذا كنا قد قمنا بقراءة الإرهاب في وجوده الذكوري المعلن ، فإننا قد بقينا بمنأى عن رصد الدور النسوي في دعم الظاهرة الإرهابية ، ليس في حدود النشاط التنظيمي الإرهابي وحسب ، وإنما فيما قبل ذلك من نشاطات ترفع شعارات دينية إيجابية ، بينما هي في الحقيقة تمارس التبشير الصريح وغير الصريح بأفكار المتطرفين ؛ لتوقع في شباكها الجهنمية أكبر قدر من الضحايا ، تلك الضحايا التي تتراوح درجة سقوطها بين الانضمام الفعلي إلى التنظيمات الإرهابية ، وبين الاكتفاء بالتعاطف والترويج الخفي لأفكار الإرهاب . هل يمكن القول إن التيارات المتطرفة قد وضعت لها قاعدة عملٍ آمنة محصنة ، بصياغتها لعالم المرأة من جهة ، ولإبقائها هذا العالم بعيدا عن الأنظار من جهة أخرى ؟ ، أليس انغلاق المجتمع النسوي على ذاته هو ( وضعية ) غير طبيعية ، تصب في مصلحة المتطرفين والإرهابيين ؛ لأن جرائم التطرف وجرائم الإرهاب وجرائم المخدرات دائما ما تجد بيئتها الخصبة في الشوارع الخلفية المظلمة ؟ ألا تكون الخطوة الأولى هي وضع هذا المجتمع المغلق في دائرة الضوء ، وجعله عالما مكشوفا كما هو عالم الرجل تماما ؛ بحيث يستحيل على الجرذان الإرهابية أن تجد فيه ملجأ للتبشير بالتطرف ، أو حتى للتخفي عن الأنظار ؟ لماذا نستمرئ دائما تأجيل الحلول مع وضوحها التام ، بل لماذا نتجاهلها وكأننا لسنا الهدف المباشر لكل هذا الإرهاب ؟.