من يقرأ رسالة أحمد ابن فضلان، التي يصف فيها رحلته إلى بلاد العجم والترك والخزر وبلاد الصقالبة والروسية والاسكندنافية، لا يمكنه إلا أن يطرح على نفسه العديد من التساؤلات جراء المفارقات والتداعيات العجيبة التي تتركها قراءة تلك الرسالة البليغة. فهذا الداعية، الذي غادر بغداد سنة تسع وثلاثمائة هجرية الموافق حزيران 921 ميلادية، متوجها نحو البلغار عاصمة ملك الصقالبة تنفيذاً لأوامر الخليفة العباسي المقتدر بالله، قد كتب عن كل ما صادفه من عجائب وغرائب في طريقه. ان الوصف البونورامي الذي يقدمه الرحالة الكبير أحمد بن فضلان عن العديد من أوجه الحياة والعلاقات الاقتصادية والاجتماعية عند شعوب البلدان التي زارها أو مر عليها يبين بوضوح مدى التقدم الذي وصلنا إليه آنذاك من ناحية ومقدار التخلف الذي كانت تعيش في ظلاله البلدان التي مر عليها من ناحية أخرى. وهذا يطرح علينا التساؤل القديم الجديد الذي طالما حيرتنا الإجابة عليه. وإذا كنا حتى الآن لم نتمكن من تحديد الأسباب التي أدت إلى تراجعنا عن المستوى الذي حققناه عندما كنا سادة العالم، وهو تراجع يشمل المجال الاقتصادي والاجتماعي والعلمي وغيره، فقد يكون من المجدي عكس الاستفسار والبحث ليس عن الأسباب التي أدت إلى تراجعنا بل عن الأسباب التي أدت إلى تقدم تلك البلدان التي زارها ابن فضلان. وعلى ما يبدو فإن أحد الأسباب التي أدت إلى تقدم الحضارات المشار إليها والتي من ضمنها الحضارة الأوروبية هو تطلع تلك البلدان إلى الأمام أكثر من تلفتها إلى الوراء. فالحضارة الرومانيةالشرقية التي كانت تعتبر في يوم من الأيام أقوى الحضارات الأوروبية على الاطلاق قد تراجعت وأخلت المكان لحضارة الروم الغربية التي تمثل اليوم ما يسمى الغرب. وتدهور امبراطورية الروم الشرقية قد جاء على خلفية تعلقها بشبح الماضي وطيف روما القديمة على حد تعبير المؤرخ ارنولدو تويمبي. وقد يكون التقدم الذي أحرزته الولاياتالمتحدة في المجالات العلمية والاقتصادية هو أحد الأدلة على صحة ما أشار إليه المؤرخ البريطاني. فالولاياتالمتحدة- التي تعتبر أحدث بلد في العالم الغربي، حيث لا يتعدى عمرها 224 عاماً- لم تترك لها الظروف مجالا نحو التلفت إلى الماضي. فلم يكن أمام هذا البلد ماض أصلا يمكن الرجوع إليه أو الاعتداد به. الأمر الذي حتم على أمريكا التطلع فقط نحو الأمام والأمام وحده. من ناحية أخرى فإنه من المستحيل فصل التقدم اللاحق الذي أحرزته البلدان التي زارها أحمد ابن فضلان عن تراكم الخبرة والمعرفة التي حصلت عليها تلك الأمم خلال مئات السنين. وهذا الاستنتاج مهما بدا متناقضاً مع ما سبقه فإن تراكم الخبرة الاقتصادية والإدارية والعلمية لدى حضارة الروم الغربية من وقت شارلمان وحتى الآن هو أحد الكنوز التي قامت على أساسها الحضارة الغربية وخاصة الانجلو ساكسونية. ولكن ألا يعني استفادة أوروبا من تراكم الخبرة الاقتصادية والإدارية التي اكتسبتها على امتداد أكثر من ألف وخمسمائة عام نوعاً من التلفت إلى الماضي؟ نعم هو بالتأكيد كذلك. فأوروبا ما كان بإمكانها أن تحقق كل ما حققته من إنجازات لو كان هناك تقطع في تاريخها. فمواصلة النمو ومراكمة الخبرة دونما انقطاع هو واحد من الأسباب التي رقت بالحضارة الغربية إلى هذا المستوى الاقتصادي والإداري والعلمي الذي نراها عليه اليوم. فالاستفادة من الخبرة المتراكمة هو من الأمور المرغوب فيها من أجل التقدم للامام حتى وان كان ذلك نوعا من التلفت إلى الماضي. فعمر الإنسان محدود وهو حتى يتقدم يحتاج أن يأخذ الخبرة ممن سبقه وأن يمضى قدماً إلى الأمام. إنه لمن المؤسف حقاً أن تسبقنا بلدان كانت في يوم من الأيام تتخلف عنا في العديد من مجالات الحياة. ولكن تقطع تاريخنا، كما يرى ابن خلدون، قد يكون هو من أهم الأسباب التي حالت بيننا وبين مراكمة الخبرة اللازمة التي لا غنى عنها من أجل التقدم للامام.