أنا أعيد اليوم طرح اقتراح انشاء مجلس أعلى للعلوم والتقنية على أعلى المستويات تكون له مهام تشريعية ورقابية وتنفيذية من أجل التنسيق بين جميع القطاعات المهتمة بالعلوم والتقنية والعمل على تكاملها وتحفيزها على توطين كل فعالياتها من المعروف أن لكل دولة سياساتها وتوجهاتها الخاصة التي تخدم مصالحها ومصالح شعبها في جميع الأمور السياسية والاقتصادية والعلمية والأمنية والعسكرية ولذلك تخصص جهازا لكل فرع من تلك الفروع يدير توجهات الدولة في هذا الفرع أو ذاك. وإذا تعددت الجهات المسؤولة عن القيام بأحد تلك الأنشطة فإنه يلزم ايجاد جهاز تنسيق بين الجهات المعنية وذلك لتوحيد التوجه ورسم السياسات بالاضافة إلى المتابعة وتحقيق التكامل وضمان عدم التكرار والهدر غير المبرر ، ناهيك عن التحفيز وخلق المنافسة وسن الجوائز واقتراح الخطط على المستوى الوطني. ولعل هذا الأمر يصبح أوضح ما يمكن في مجال العلوم والتقنية ؛ حيث إن هذين الموضوعين تتعدد الجهات المسؤولة عنهما فوزارة التعليم العالي تشرف على أكثر من أربع وعشرين جامعة على امتداد الوطن بالاضافة إلى فروع تلك الجامعات وكذلك الكليات المساندة ، والجامعات بدورها تحتضن كثيرا من التخصصات العلمية والتقنية وتحتضن البحث العلمي بشقيه الأساسي والتطبيقي ويدخل في ذلك العلوم الأساسية والهندسية والطبية والزراعية ويساندها في ذلك مراكز ومعاهد متخصصة في أبحاث البترول والنانو وعلم المواد والتقنية الحيوية ودراسات التصحر وأبحاث المياه ومصادر الطاقة المتجددة كالطاقة الذرية والطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة المائية والأرضية بالاضافة إلى الأبحاث الإنسانية كأبحاث الإعاقة والتوحد وصعوبات التعلم والمتغيرات الاجتماعية ناهيك عن وجود كراسي متخصصة في مجال الأمن الفكري والحسبة ومكافحة المخدرات وغيرها من المجالات التي لا يمكن حصرها في عجالة أو مقال. وإلى جانب الجامعات تولد هذه الأيام مدينة الملك عبدالله للطاقة الذرية والمتجددة وهذه سوف تكون رأس حربة علمية تنموية ندخل من خلالها ونستعد للمستقبل بخطى واثقة آخذين بعين الاعتبار أن ما نملكه اليوم من قدرات مالية يمكننا زراعته في مؤسسات علمية وتقنية ذات مردود مثمر ولها بعد أمني مهم في المجال الاقتصادي والتنموي والصناعي والاجتماعي وغيرها من الفعاليات المهمة التي تعتمد جميعها وتحتاج إلى كل من الطاقة الكهربائية والامدادات المائية بصورة متزايدة تعكسهما الزيادة المطردة في عدد السكان ويفرضهما احتدام الصراع على مصادر الطاقة ومراكز الوفرة المائية. كما أن مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية لها اهتمامات علمية وتطبيقية عديدة وهي تدعم البحث العلمي على مستوى المملكة. أما المؤسسة العامة للتعليم الفني والتقني فهي مسؤولة عن تخريج كوادر وطنية مؤهلة ومدربة في مجالات التشغيل والصيانة والمفترض قبل ذلك وبعده في مجال التقنية المتقدمة خصوصاً أن أكثر من (80٪) من حاجة السوق السعودي من العمالة الماهرة يشغلها متعاقدون تشكَّل بسبب وجودهم ما نعاني منه من بطالة ، على أن المؤسسة تبذل جهوداً جيدة من خلال عقد شراكات مع عدد من الدول وذلك لتسهيل عملية انسياب التجربة والخبرة والاستفادة منها. وبالطبع الأمر لا يقتصر على ما ذكر فوزارة التجارة والصناعة والغرف التجارية والصناعية لها اهتماماتها في المجالات التجارية والصناعية وما يخدمهما من علوم وتقنيات. وإذا توجهنا إلى الصناعة نجد أن هناك مدينتين صناعيتين هما الجبيل وينبع تعتبران قلعتيْ الصناعة الوطنية بالاضافة إلى المدن الصناعية في أغلب مدن المملكة وهذه القلاع تضم آلاف المصانع التي تتراوح ما بين الصغيرة والكبيرة والتي تديرها شركات صناعية ضخمة مثل شركة سابك وغيرها من الشركات البتروكيماوية ، ناهيك عن مصانع الأدوية والأسمنت والحديد والجبس والزجاج وصناعة استخراج وتكرير البترول التي تهيمن عليها شركة أرامكو العملاقة وغيرها من الصناعات الخفيفة والثقيلة والتقنية المتقدمة. ومن يمعن النظر يجد أن بعضاً من تلك الصناعات تستورد كل أو بعض المواد المستخدمة في الصناعة من الخارج وكان من الأجدى لو أن الصناعة تقوم على مبدأ من المنجم إلى المستهلك. ومما لاشك فيه ان مثل هذا الأمر يحتاج إلى جهات تفرضه وتوحد توجهه وتدرس منطقية أسبابه. فكل صناعة تقوم على شيء مستورد تصبح رهينة لتقلبات الأسعار والاحتكارات الخارجية ناهيك عن أن صنع المواد الأولية ومن ثم تحويلها إلى مواد استهلاكية أو تصديرها أكثر نفعاً من أسلوب التجميع الذي تقوم به بعض المصانع. أما وزارة المياه والكهرباء فلها أساس مباشر بالعلوم والتقنية ؛ حيث إن جميع فعالياتها سواء كانت في مجال تحلية مياه البحر أو إعادة تدوير مياه الصرف الصحي أو في مجال توليد الكهرباء يحتاج إلى توطين تلك التقنيات وتطويرها من خلال مختبرات ومراكز أبحاث وطنية تعتمد البحث والابتكار ركيزة أساسية لمشروعاتها. وفي سبيل تحقيق ذلك يمكن جلب وإعداد العلماء والمختصين وبذل كل الجهود من أجل الاستغناء ولو جزئياً عن الاعتماد على المستورد. وإذا ألقينا نظرة على وزارة الزراعة نجد اننا بحاجة إلى أبحاث الحد من التصحر وإعادة الغطاء النباتي والبحث عن الوسائل التي تحد من استهلاك المياه في الزراعة وتعميم استزراع النباتات التي لا تحتاج إلى كثير من الماء ناهيك عن الأبحاث التي تتعلق بالثروة الحيوانية. إن مبدأ الأمن الغذائي في حده الأدنى يجب أن يكون من الانتاج المحلي ويجب أن تكون وزارة الزراعة مسؤولة عن تحقيقه. أما وزارة الصحة بمستشفياتها ومختبراتها ومراكزها الصحية والبحثية والعلاجية فإنها تستخدم كثيرا من المواد والأجهزة والمعدات المستوردة وتشبهها في ذلك وزارات ودوائر حكومية وخاصة كثيرة. التعليم الأهلي بدأ يشق طريقه على شكل جامعات وكليات ومعاهد متخصصة أو عامة وإذا أعدنا النظر نجد أن هناك عددا من المؤسسات العلمية والتقنية حديثة المنشأ وذلك مثل هيئة الدواء والغذاء تحتاج إلى جهود جبارة للوفاء بالتزاماتها التي تعتمد كلياً على العلوم والتقنية وهي وغيرها سوف تجد نفسها معتمدة على الأجهزة والمواد والأدوات المستوردة. لذلك وبإمعان النظر نجد أن المملكة تخوض غمار حراك علمي وتقني في مجالات تعليمية وبحثية وصناعية وخدمية وأمنية وعسكرية وعلاجية وتشخيصية ولكن القاسم المشترك فيما بينها أن جميع المعدات والأدوات والأجهزة وكثيرا من العاملين عليها سواء في مجال التشغيل أو الصيانة مستوردة وعمرها الافتراضي قصير جداً حيث تتقادم بمجرد ظهور جيل جديد منها وغياب قطع غيارها والأهم غياب من يستطيع تأليف قطع الغيار وإصلاحها لذلك نجد بسبب ذلك اننا نهدر بلايين الدولارات في الاستيراد وبلايين أخرى حوالات العمالة المستوردة أيضاً. من ذلك كله يصبح وجود مجلس أعلى للعلوم والتقنية في المملكة أمراً مهماً وذلك لتحديد سياسات الدولة العلمية والتقنية والتي يجب أن تتواكب مع استراتيجيات خطط التنمية وأن تضع القواعد والنظم التي تضمن توطين التقنية خلال فترة زمنية محدودة ، وضمان قيام مراكز جودة وبحث وابتكار وتطوير محلية ناهيك عن وضع خطط زمنية للاكتفاء الذاتي في مجال العاملين المهرة في مجال التشغيل والصيانة وكذلك في مجال البحث والتطوير ليس هذا فحسب بل إن ذلك المجلس يجب أن يكون مسؤولا عن ايجاد قاعدة معلومات عن الكوادر العلمية المحلية والمجلوبة لأن ذلك يسهل على كلّ من صاحب القرار وكذلك الجهات الرقابية والتنفيذية متابعة تلك المتغيرات والحرص على الحد من سلبياتها وتعزيز ايجابياتها. نعم أنا أعيد اليوم طرح اقتراح انشاء مجلس أعلى للعلوم والتقنية على أعلى المستويات تكون له مهام تشريعية ورقابية وتنفيذية من أجل التنسيق بين جميع القطاعات المهتمة بالعلوم والتقنية والعمل على تكاملها وتحفيزها على توطين كل فعالياتها وان يكون الاستيراد من الخارج سواء في مجال المواد أو المعدات أو الأجهزة أو العاملين عليها في أضيق الحدود ، وما تفرضه الضرورات القصوى لأن ذلك هو السبيل لخلق توجه موحد وسياسات ومنهجيات وطنية لها مردود كبير في مجال الاكتفاء الذاتي وفتح فرص العمل أمام الشباب الطموح وتقليل الهدر المالي الذي يذهب في استيراد المواد والأجهزة والمعدات أو حوالات العاملين عليها وغيرهم والتي تقدر بمئات البلايين من الريالات. هذا وقد اشرت في مقال الأسبوع الماضي إلى بعض المهام والاستراتيجيات التي يمكن ان يقوم بها أو عليها المجلس الأعلى للعلوم والتقنية والذي نطمح أن يرى النور قريباً أسوة بما سبق واقترحته وتحقق على أرض الواقع مثل هيئة الدواء والغذاء والاستفادة من الطاقة الذرية والمتجددة والخزن الاستراتيجي الذي هو الآن قيد الدراسة والاعداد وغيرها من الاقتراحات التي تجد طريقها إلى التنفيذ. سدد الله خطى حكومتنا الرشيدة بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني - حفظهم الله - وأخذ بأيديهم إلى كل ما فيه صلاح للبلاد والعباد.. والله المستعان.